كان زمناً من ورد وبارود، بيروتُ المحاصرة، حزيران (يونيو) ١٩٨٢، النيران تنصبّ عليها من البحر والجو والجبل، سعدي يوسف: شاعرٌ أسمر قادم من أبي الخصيب، من أرض السيّاب قرب البصرة، يمشي بين قذائف الأر.بي. جي التي تقاوم الدبابات: «خلدة محصّنة باسمها، لا تمنح المقاتل حتى حجراً يتستّر وراءه أو يتمترس، منها جئنا بدبابة صهيونية أسيرة مع طاقمها لنجعلها فرجة للناس في الفاكهاني». من شقة في الطابق الثامن في مبنى ذي اثني عشر طابقاً يواجه البحر في الحمراء، كتب سعدي يوسف مذكرات «الزهرة والدوشكا»، مستذكراً بيتين لأراغون «السماء بأسرها تقضقض أسنانها/ أي مطر، إذن، تحمل هذه السحابة؟» وتجربته في كتاب «أفكار بصوت هادئ» (مؤسسة الأبحاث العربية، ١٩٨٧) حول حصار بيروت: «كتبتُ في هذين الشهرين (يونيو ويوليو) ربما أكثر مما كتبته خلال عام كامل. لست أدري كيف استطعتُ فعلَ ذلك وكيف احتفظتُ بالعصب الهادئ وسط الجحيم. وقد أخجل الآن حين أقول إنني كنت سعيداً فعلاً بأنني أقف وقفة واضحة مع مثُل نظيفة في وقت امتحان قاسٍ. في الأيام الأولى ومنذ الرابع من حزيران، أخذت أكتب قصائد شخصية. جاءت الغارة الأولى على المدينة الرياضية، وأنا أكتب قصيدة أتتبّع فيها مريم العذراء عند ريلكه. مع الأيام، بدأت تحوّلات مريم التي بلغت تجليها الأخير في قصيدة «مريم تأتي» التي كتبتها يوم الخامس والعشرين من تموز (يوليو)... وإلى الشقة أدخلتُ ثلاث نباتات جديدة. وعدتُ إلى قراءة التراث الإغريقي». في المدينة المحاصرة التي كان كل حجر يردّد فيها مع محمود درويش «قد أخسر الدنيا... نعم... لكنّي أقول الآن لا»، رأى «الأخضر بن يوسف» يد المعدن القاتلة وكفّاً ذات ثلاث أصابع مديدة ملتوية حادة تمتد إلى عنق المدينة المحاصرة، «هيروشيما صهيونية»، يد القاتل واضحة بينما مواقف بعض المثقفين المرتدين «يعلنون، حتى بالصوت العالي، رفضهم كل ما هو نبيل وشريف في التاريخ الحديث للشعب اللبناني، بل في التاريخ الحديث للعرب، بادئين بطه حسين، منتهين بالشيوعيين اللبنانيين». في بيروت بخاصة كانت بوصلة صاحب «النجم والرماد» و«بعيداً عن السماء الأولى» تشير إلى اتجاه القلب: فلسطين، متجولاً في قلب الخنادق وسواتر التراب في «حي السلم» مع ثلة من الفدائيين: «رواة قصائد وقناصي دبابات». أولئك الشهداء الذين صاروا أشجاراً في حي السلّم يرسلون لصاحب «من يعرف الوردة» في وداعه أول براعم الربيع.
الدوشكا والزهرة
بائعة الزهور في «الطريق الجديدة» ليست تماماً بائعة زهور. مرة فتحَت لها مطعماً في مدخل مبنى بالفاكهاني، مقابل وكالة «وفا» تقريباً، ومرة أرادت أن تفتح «بوتيك» ومرة... إلى آخر ما يمكن أن تتفتّق عنه رغبة عجيبة في تغيير واجهة حياة أو طعم حياة. لكن محلّ الزهور باقٍ، والباقات والأكاليل باقية هي الأخرى، ما دام الناس هنا يطالبون بالزهور، الأحياء والشهداء، جنباً إلى جنب. كان محلّ الزهور يظلّ مفتوحاً، طوال الأسبوع، وصباح مساء. بعد الغارة الإسرائيلية الأولى على المدينة الرياضية، في السادس من حزيران (يونيو) ١٩٨٢، أغلقَت بائعة الزهور محلّها. أتراها ستفتحه ثانيةً؟
في أحد الأيام، وكان الوقت ضحى، اخترقنا الضاحية الجنوبية، لنبلغ «الغبيري». صيف هندي وسماء رائقة الزرقة. الطيران الإسرائيلي يعربد طليقاً. حول مستديرة «الغبيري» كانت المضادات تهتز وتهزّ العصب، بينما طائرات العدو تخترق حاجز الصوت منطلقة إلى أهدافها. نصحَنا الشبابُ بالعودة من حيث أتينا... «الحالة ما تعجب»...كانت المضادات تطلق قذائفها بدون انقطاع، ومن بقي من الناس هرع إلى الملجأ.. ونحن لا نعرف ما نفعل. سائق السيارة يتعجّلنا وهو يرتجف (غضباً أم خوفاً؟). في الساحة، انتبه إلى إطلاق غريب، قريب جداً. اللعنة! نحن إذن في وسط النيران؟ وتحين مني التفاتة (مذعورة؟) إلى مصدر الإطلاق... يا أم الله المقدسة! هناك وسط الساحة، وخلف «دوشكا» منصوب على سيارة «لاند»، كانت بائعة الزهور تختض، بينما الدوشكا ينطلق صاخباً نحو سماء ذات طائرات إسرائيلية معربدة. هدأ الإطلاق بعد حين. قيل لشباب المضادات أن يبتعدوا عن الساحة. ابتعدت «اللاند» بطيئة، وهي تحمل الدوشكا الصامت، بينما قفزَت بائعة الزهور من اللاند بكامل زيها العسكري الملتف على قامة أقرب إلى الامتلاء.
لم أشأ أن أحدّثها طويلاً. قلتُ لها: أين زهورك؟ صافحتني ضاحكة، ثم مضت واثقة الخطو نحو الملجأ. مستديرة «الغبيري» تخلو من السابلة، والسائق يتعجلنا لنعود، و«الدوشكا» اختفى عن النظر ليدخل زوادة النفس.

لا بأس أيها الصديق
(مقطع من رسالة إلى فواز طرابلسي)
إذن عاد إلى بيروت مَن هربَ من الغارة الأولى، وعاد مِن مناطق الاحتلال الصهيوني مَن عاد، بعد أن استوى الصيف والشتاء، أما مَن سكت دهراً، فإنه ينطق الآن كفراً.. ولكن على رؤوس الأشهاد، وأعمدة المنابر. وتلك «النخبة» التي «حاورت» العدو تريد الآن أن تمسي ضمير البلد وأهله. وها هم أولاء «مثقفو الطوائف والطائفية» يقدّمون «اجتهاداتهم» وما أكثرها، وما أشدها مبعثة للألم والوجع والغثيان. أما المبشرون بأوراق أميركا ومواليها في المنطقة، فيبدون الأكثر مكراً بين المضطربين في هذا الزمن المضطرب، ربما لأن أميركا قد أعدّت للبنان تصورها الذي يستلزم حدّاً أدنى من «اللاخرافة» وهو حدّ يتطلب - على أي حال- «أناساً» لا نسانيس.. عملاء معتمدين لا طراطير. «المراجعون العدميون للتجارب الماضية»، كانوا دائماً مراجعين عدميين، ابتداء من النص الشعري وانتهاء بالمقاومة الفلسطينية، هؤلاء المراجعون العدميون كانوا يتمتعون في بيروت الوطنية بتلك الديمقراطيّة النادرة، ديمقراطية ما قبل أثينا، بينما هم يعلنون، حتى بالصوت العالي، رفضهم كل ما هو نبيل وشريف في التاريخ الحديث للشعب اللبناني، بل في التاريخ الحديث للعرب، بادئين بطه حسين، منتهين بالشيوعيين اللبنانيين.
هؤلاء المراجعون العدميون تراهم دائماً يستبقون «نقع» المعارك، ينظّرون لـ «المجالسية» حين يستدعي الأمر، ولـ «نظرية القوّتين العظميين» حين تلح الحاجة، لـ «الإرهاب» حين تُدفع الفواتير باسم «الراية الحمراء»: ولـ «الحضارة اللبنانية» حين يشعرون، في فجاءة عجيبة، أنهم مواطنون جداً. لكننا لن نندهش أو نستغرب، فنحن نعرفهم واحداً واحداً، مرتدين عن أحزابهم وتنظيماتهم، كارهين كل ما يذكرهم بماضٍ نظيف، محاولين التنصل - حتى شخصياً - من علائق يمكن أن تستنقذهم يوماً. وها أنتذا أيها الصديق تحسّ بـ «دائرة الأصدقاء تضيق أكثر فأكثر مع الأيام». إذن.. لم يعُد بيتك في الجبل ملاذاً وملعباً (علمت أن الإسرائيليين قد احتلوا المنطقة، وفتّشوه أكثر من مرة)، ولم تعُد شقتك بييروت أليفة كعهدها، ومن يدري فربما هجرت مكتبك بعد أن نأت مكتبتك... لا بأس أيها الصديق، فالساحة تظل ساحة حتى لو ضاقت إلى مساحة زنزانة.
من ذلك الموقع العالي، المطل على المخيم، ينشر آرييل شارون خريطة لأزقة الدم


نشيد لحي السلّم
وقف لإطلاق النار. نحن في «حي السلّم» بيننا وبين الإسرائيليين بضع شجرات رمان. قبل أيام، وفي الحي نفسه، كان الإطلاق غزيراً، والطائرات تهدر في سماوات صافية منطلقة نحو أهدافها، نحن بيننا وبين الإسرائيليين جدار يمتدّ طويلاً. خلفه، وفي الأرض الحرام دبابة إسرائيلية معطوبة. أراد الإسرائيليون سحبها فواجهتهم نيران قنص. عليك أن تنحني وأنت تركض لصق الجدار. إن رفعتَ رأسك فقدتَه. في الملجأ كان مقاتلون وضباط. «لماذا جئتم في هذا اليوم؟ إنه من أشد الأيام ضراوة. نحن هنا قوة تعويق، مهمتنا الاشتباك مع العدو وتأخير تقدمه. ألم تروا الدبابة في المنطقة الحرام؟ مشكلة مقاتلينا أنهم يتمشون في الطريق كأنهم في نزهة. الأشجار مغرية. لكن ماذا سيحدث لو داعبتهم طائرة إسرائيلية؟ يا ملازم.. قل لهم أن يستتروا». بيوت الحي مثل تلك البيوت المتناثرة في غوطة دمشق. خفيضة ذات نبات متسلّق ورائحة ربيع دائم. أهل الحيّ هجروه منذ أمسى من خطوط التماس، وجاء هؤلاء المقاتلون المترحلون ذوو الأسلحة الخفيفة. «المدافع؟ كيف نأتي بالمدافع إلى هذا المكان؟ ألستَ ترى طائراتهم تمشّط حتى سيارات الصليب الأحمر؟ ولو افترضنا أننا جئنا بمدفع.. أتعرف ما سيحلّ بالحيّ؟ أنتم جئتم من «الطريق الجديدة».. ألم تروا ما فعلته الطائرات بالعمارة الملاصقة لمطعم «التوليدو». ثم دعني أسألك: أهذه البيوت من أملاك أبي ليحقّ لي أن أسكنها اليوم وأهدمها غداً؟ عجيب! هل قطعت الطريق كلّه من «البربير» إلى هنا لتسألني عن المدافع؟ عجيب والله! أكلُّ ما تعرفه عن العسكرية هو أن تشتم العسكر؟» ضحك الملازم ناصر. «يا عمي خلصنا. غلط وسأل سؤالاً. بكرة يعرف كل شيء. تشربون شاياً؟ تأكلون؟ مقلوبة ولبن؟». هدرت الطائرات منخفضة مزمجرة كأنها ستدخل من باب الملجأ.. لا تخف.. إنها متّجهة صوب الجبل. السائق يتعجل العودة. القصف يشتد، من البعيد أصوات انفجارات مكتومة، والمقلوبة لم تأتِ بعد.
أسلمتُ «حيّ» السلّم العينينِ
قلت لهُ: سأبصرُ ما تبصّرني
سأقرأُ ما تقولُ حجارةٌ لحجارةٍ
ما يهمسُ الشبّاكُ للشبّاكِ
ما تستروحُ الأبوابُ..
أقرأُ ما تنوءُ به الغصونُ
وبعضَ ما تُخفي حدائقكَ الصغيرةُ
أو تدورُ به أزقتكَ الحفيرةْ
في المخبأ السرّيِّ
أشرعنا النوافذَ للرياح الأربع الثملاتِ
لم نترك مكاناً للهواجس غيرَ هذا الصمت
كان رفاقُنا الضباطُ يرتجلون أغنيةً:
وماذا لو تخلّوا كلُّهم عنا؟
وغنّى الرفقة الضباطُ:
«حي السلم» الدنيا، وقفتنا الأخيرةْ
ما بين حائطكَ المثلّمِ والعدوِّ، خطى
وما بين الخطى والموتِ غمضةُ مقلةٍ يُسرى
سلاماً أيها الحيّ المتوّج بالقذائفِ
أيها الحيّ الذي اخترناه جلجلةً
سلاماً للصبايا بين بساتين الخضارِ
وللشبيبةِ في المحاورِ
للشهادةِ في السريرة.
...
كانوا أربعةً في «حيّ السلّم»
قنّاصي دبّاباتٍ ورواةَ قصائدْ
كانوا عشّـاقاً لفلسطينَ رفاقاً في بغدادَ
وأمسَوا أشجاراً في «حيّ السلّـم»
أربعةً كانوا في «حيّ السلّم».

شمس المتوسط تنتظر
(في وداع بيروت)
من ذلك الموقع العالي، المطلّ على المخيم، ينشر آرييل شارون خريطة لأزقة الدم. السماء زرقاء مذهلة. المدينة مقفرة تماماً. الشاحنات تتحرك وحدها. سينما قيامة. رائحة البحر تقترب. كنت ودّعتُ محمود درويش، وقبله أدونيس وخالدة. آخر المودعين محمد كشلي وحبيب صادق، جاءت منى السعودي مع ابنتها التي شرعت تعابث البيانو في فندق «كافالييه». تقول سأبقى مع تماثيلي المنثورة في الحديقة والمشغل. اذهبوا جميعاً واتركوني هنا. لكنهم يعرفونك يا منى. محمود رفض البحر. جاؤوه بالكوفية والبدلة العسكرية والكلاشن، وحددوا ساعة رحيله. قال إني أكره البحر. ثم غادر الفندق. اختفى. وسفينته غادرت. قبل يومين، التقيت بحسين مروة ومحمد دكروب في مستشفى الجامعة الأميركية. كانا يعودان جريحاً. قالا: ستكون الظروف عسيرة. و«أسير الضاحية»؟ ما قصة أسير الضاحية الذي دخل التاريخ بنداً مستقلاً في المفاوضات؟ السواتر مسوّاة بالأرض. المدينة مفتوحة. الطرق مفتوحة. البحر مفتوح. جنود أميركيون متدرعون متجهمون. لماذا تولّد لديّ إحساس بأن كلّ الجنود الأميركيين ذوو نظارات طبية؟ جنود فرنسيون أقل كلفة وأوضح حرفة. ينبغي لك أن تقفز من الشاحنة العالية بخفة الفدائي. ألستَ ترتدي بدلته، وتعتمر كوفيته؟ في المرفأ جنود لبنانيون في غاية الأناقة. تسجيل أسماء المغادرين. حقيقة؟ البحر وحده هو الحقيقي، الناس والوجوه والأشياء في حالة من ذهول التحول. «شمس المتوسط» تنتظر. ضعوا أسلحتكم هنا. في هذه الحاوية. البيريتا قصير، وما هو بالحِمل العسير. «شمس المتوسط» فارهة. والبحر وحده هو الحقيقي.




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا