رحل سعدي يوسف.وأنا من جيل مدين له بالكثير. ولا بدّ من الاعتراف بهذا الدين.
وصل إلينا سعدي، والشعر صخّاب لهّاب، من البياتي، إلى أدونيس، إلى محمود دوريش. فهدأ لنا النغمة. سكب على رؤوسنا الحامية ماء بارداً. وكنا في حاجة إلى هذا. كنا بحاجة إلى أن يخفت الصخب قليلاً، وإلى أن تهدأ الأرواح قليلاً. أتانا بالأخضر بن يوسف، أتانا بجدارية فائق حسن، وأتانا بالبسيط الجميل، فتلقفناه.
درست في بغداد. وأذكر أنني حين عدت إلى عمان حملت معي مجموعته «الأخضر بن يوسف ومشاغله». وكان الجو صخاباً شعرياً هناك أيضاً. فتشكلت حول سعدي وحول أخضره حلقة. كنا أنا وأمجد ناصر نواة هذه الحلقة، ثم اتسعت الحلقة، والتقت مع حلقات أخرى هنا، وهناك. وصارت الحلقات تياراً كبيراً.
(تصويرصموئيل شمعون)

أنقذنا سعدي من الصخب. وأنقذني أنا من محمود درويش العاصف الصاعق. ثم تعرفت على سعدي في بيروت. لكنها لم تكن معرفة عميقة. في قبرص في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، عرفته أكثر وأعمق. كنا نُصدر مجلة «الفكر الديمقراطي» التي رأس تحريرها جميل هلال. وهناك خبرته محرراً حقيقياً، وتعلمت منه. لم يكن يأنف، كشاعر كبير، القيام بأي شيء حين يطلب منه. ثم واصلت معه في تونس. ثم كنت ألتقيه هنا وهناك في هذا العالم.
لم يبدأ سعدي يوسف عاصفاً كما بدأ السياب، أو أدونيس، أو محمود درويش. لا، بدأ هادئاً ورصيناً. لم يكن هناك في مجموعاته الأولى ما يوحي بأنه سيتحول إلى شاعر كبير. كل شيء يوحي أنه سيكون شاعراً جيداً، لكن ليس من الكبار. لكنه ما لبث أن أسقط هذا الحكم، وحوّل نفسه إلى زعيم تيار عريض في الشعر العربي. وقد فعل ذلك بدأبه وجهده. كان يعمل عمل النمل، خطوة خطوة، وحبة حبة، حتى امتلأ بيته وفاض. سعدي يوسف مدين للجهد والمثابرة لا للموهبة. وهنا تكمن قيمته. هنا تكمن أمثولته الحقيقية. لقد حفر بأظافره في الصخر حتى صار شاعراً كبيراً. ولم ترفعه موجة سياسية، رغم أنه كان في قلب السياسة. لم ترفعه الجماهير. بل رفعه الشعراء، والشعراء الشباب من عدة أجيال خاصة. البياتي رفعته قضاياه وحزبه، درويش رفعته موهبته وقضيته، وأدونيس أيضاً رفعته موهبته وقضاياه محددة. أما سعدي فرفعه جهده، ورفعته جمهرة من الشعراء.
لم يبدأ عاصفاً كما بدأ السياب، أو أدونيس، أو محمود درويش. لا، بدأ هادئاً ورصيناً


وقد ظل سعدي يكتب كل يوم تقريباً حتى مرضه الأخير. ولعله كتب في مرضه أيضاً ولم يصلنا. وكان هناك في السنوات الأخيرة من طالبه بالتوقف على افتراض أنه يكرر ذاته. وتكرار الذات ليست تهمة. فالغالبية الساحقة من الشعراء تنتهي إلى تكرار ذاتها، بهذا الشكل أو ذاك. ثمة قوانين بيولوجية تتحكم في هذا. ثمة الشيخوخة التي تضرب كل شيء. لكن علي أن أقول أن سعدي لم يكن يكرر ذاته بالطريقة المألوفة. إذ كان يفاجئك بين الحين والحين فينشر مقطعاً أو قصيدة تحسّ بأنه استعاد شبابه فيها. كان سعدي يريد أن يكتب ويكتب، أن يقرأ ويقرأ، وأن يترجم الشعر وأن يترجمه. ومهما قيل عن ترجماته، فقد لعبت دوراً هائلاً في تطور عدة أجيال شعرية. وكانت تأثير ترجمته لكفافي وريتسوس على الأخص كاسا. وكان سعدي في الحقيقة يترجم أشباهه. فقد كان قريباً جداً من ريتسوس، وكان يحاول أن يقترب من عوالم كفافي.
وليس هناك شعراء قديسون، لأنه ليس هناك بشر قديسون. كانت لسعدي نواقصه، وكانت له محاسنه. وقد قضى العقدين الأخير بالذات وهو في اشتباك دائم مع مثقفين كثيرين. وقال كلاماً لم يكن يحسن به أن يقوله. لكن للعمر أحكام، ولليأس الذي عمّ المنطقة أحكام. اليأس قطّع قلوبنا في هذه المنطقة، ودفعنا إلى فعل ما كان من الأفضل أن لا نعمله. وكنت أرى جدالات المثقفين مع سعدي وأحزن. أقول في نفسي: ارحموا شاعراً تعب، ولم يعُد متماسكاً. ارحموا من أعطاكم وأعطانا كثيراً. لكن الدمار واليأس الذي حل بالمنطقة لم يساعد أحداً على الغفران لأحد.
ولا يتحمل سعدي وحده مسؤولية هذه المعارك. فالعراق، أبو سعدي وأمه، كان قد اشتبك مع ذاته، ومزّق هذه الذات إرباً إرباً. وكيف كان على سعدي أن يتماسك في هذا المناخ المخيف. لقد كان ابن غزيّة التي مزقت ذاتها:
وهل أنا من غزية إن غوت
غويت، وإن ترشد غزّية أرشد
كلنا غوينا في العقدين الأخيرين. كلنا تمزقنا، ومزقنا غيرنا. لكن سعدي كان قد وفى ووفىّ. كان قد أعطانا ما يعطيه إلا الذين فاضت بالوحي أرواحهم.

* شاعر فلسطيني




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا