«ليست الإسلاموفوبيا بالظاهرة الجديدة في أوروبا، وبالإمكان تتبّع جذورها التاريخية إلى القرون الوسطى، لكن نوع العداء للإسلام في أوروبا اليوم هو ظاهرة جديدة نسبياً وخصوصاً في ألمانيا». هذا ما يفتتح به المستعرب الألماني ستيفان فايدنر (1967) كتابه «خطاب ضد الإسلاموفوبيا في ألمانيا والغرب- مناهضة بيغيدا» (2016) الذي لم تصدر عنه ردود فعل ثقافية ونقدية يستحقّها من الاهتمام وتسليط الضوء على محاور وأفكار الكتاب المتضمنة آنذاك. إن إضاءة متجدّدة على محاور الكتاب، من شأنها توجيه النقاش العام إلى فهم السياق التاريخي في لعبة العداء المستعر ودوافعها الأيديولوجية والسياسية.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
يؤكد فايدنر أن الظاهرة موجودة في تجلياتها العدائية والعنصرية للأجانب، ولم يكن ذلك من خلال التمييز بين مهاجرين مسلمين ومهاجرين غير مسلمين، قادمين من جنوب أو شرق أوروبا (كان للمهاجرين الطليان في ألمانيا في الستينات والسبعينات سمعة أسوأ من سمعة المهاجرين المسلمين). ورغم أن أغلب العمال المهاجرين أتوا من تركيا، إلا أنه تم النظر إليهم كمهاجرين فقط لا كمسلمين، وكان ينظر إلى الإسلام كظاهرة تاريخية مضى عليها الزمن. ودُرِّست اللغة العربية في الجامعات الألمانية كلغة ميتة. وفي إطار هذه العلاقة المجردة بالإسلام، كان هناك تقدير كبير للإسلام عند شعراء كبار أمثال غوته أو ريكرت أو هايني وآخرين في الحقبة الرومانسية، ولا يزال جزء كبير من المثقفين الألمان يمتلكون صورة إيجابية بفضل هؤلاء الشعراء عن الإسلام كثقافة مجردة، وتاريخية في آن. وهو ما يوضح أيضاً لماذا يقدّر عدد كبير من الألمان الإسلام كثقافة تاريخية، ولكنهم يرفضون ـــ عملياً ـــ المهاجرين من أصول إسلامية، كما يرفضون الإسلام المعاصر.
يقترب عدد المسلمين في ألمانيا من أربعة ملايين أي ما يقرب من خمسة في المئة من الشعب الألماني، أغلبهم من أصول مهاجرة، مع ندرة الألمان الأصليين المسلمين، وأغلب المهاجرين المسلمين يحملون الجنسية الألمانية ويعيشون منذ جيلين أو ثلاثة في ألمانيا. يتفاوت اندماجهم وفق ما يتعلق بمستواهم الدراسي، وبطبقتهم الاجتماعية. بعضهم يشغل مواقع مهمة في الإعلام ومؤسسسات الحكومة، وزعامة أحزاب، لكنّ كثيرين منهم يعيشون في أسفل السلم الاجتماعي ويضطرون لطلب المساعدات.
أغلبية المسلمين الذين جاؤوا إلى ألمانيا لم يعودوا من حيث أتوا، بعكس ما كان منتظراً منهم، بل «بقوا هنا وسيبقون» ليستيقظ الألمان على حقيقة أن ألمانيا بلد مستقبل للمهاجرين مثل الولايات المتحدة وكندا.
يقدم المؤلف إحاطة تاريخية بـ «حركة بيغيدا» التي انطلقت باحتجاجاتها خريف 2014 في مدينة دريسدن (شرق ألمانيا) ضد الهجرة وضد الإسلام. نشوء بيغيدا لا يرتبط بعوامل ألمانية داخلية، ولكن بالتطورات على الساحة السياسية الدولية، وخصوصاً في العالم العربي ـــ الإسلامي. إذ أسهمت الحروب الأهلية في سوريا والعراق وليبيا، وما نتج من ذلك من حركات لجوء في نشوء الحركة. وفق فايدنر، فإن الحافز الأول والأهم بالنسبة إلى المحتجين هو الخوف من التحولات السياسية، والخوف على الوضع الاجتماعي المُرفّه، والضغط على الحزب المسيحي الديموقراطي المحافظ أن يصون طابعه المحافظ عوضاً عن السياسة الليبرالية التي ينتهجها واعتبار ألمانيا بلداً للهجرة.
لم تتوقف الاحتجاجات في شرق ألمانيا بل تعدّتها إلى غربها، مع سيل جارف من النشاط الإعلامي المتعدّد الأوجه المناهض للإسلام والمسلمين، لكن الأكثر حسماً في هذا السياق وهذا هو الموضوع الحقيقي لكتاب ستيفان فايدنر، أن الكثير من الأفكار التي تروّج لها «بيغيدا» ليست خاصة بها، بل منتشرة لدى قطاعات عريضة من الشعب الألماني، وفي الإعلام والسياسة والنخب قبل ظهور «بيغيدا». يبدو خفوت بيغيدا بعد عربدتها في الشارع لأسابيع بين 2014 و2015 عائداً ليس فقط للخلافات الداخلية في الحركة وأجندتها غير الواضحة، بل للمظاهرات المندّدة بها ونأي الأحزاب الألمانية في البرلمان، ووسائل الإعلام الجدية بنفسها، عن برنامج الحركة. بدا حينها أن المجتمع المدني الألماني يقف ضد المدّ اليميني، وضد الإرهاب باسم الدين.
الإسلام لا يقلّ تنوعاً عن المسيحية، فالوهابية السعودية، تختلف كثيراً عن الإسلام الصوفي في المغرب


يصرّ فايدنر أن من يريد أن يقف بجدية ضد «بيغيدا»، ينبغي أن يقف ضد الأيديولوجيا التي تقف وراءها. تلك الأيديولوجيا بأصولها «الاستشراقية» التي فكّك إدوارد سعيد بناها الداخلية وشيفرة مزاعمها التخيّلية عن شرق «مصطنع».
يؤكّد فايدنر أنه ينبغي أن نحلّل الحجج التي تقوم عليها هذه الأيديولوجيا، ونقد الصورة السائدة عن الإسلام في النظام العالمي النيوليبرالي كما في العالم الإسلامي، حيث يتطور الإسلام الراديكالي نقيضاً للغرب كما هي الحال لدى داعش وأخوته، وهو ما يعتبره «رداً ألمانياً على النزعات المعادية للإسلام، ليس في ألمانيا فحسب ولكن في أوروبا وسائر العالم أيضاً». ويتوجّب أن يُعاد النظر جذرياً في التصورات الراسخة عن العالم، لأنه لا يكفي الإعلان عن رفض بيغيدا وللتصورات العنصرية، بل للآثار الوخيمة التي ارتكبتها مجموعة من النازيين الجدد (الخلية اليمينية المتطرفة). لقد تم اقتراف كل ما سبق من جرائم باسم الأغلبية.
يشير فايدنر إلى أن إعلان الرأي العام رفضه لـ«بيغيدا» سيظل سطحياً ورخيصاً، إذا لم يعمد إلى تشريح الأيديولوجيات والآراء والأحقاد التي تقف وراء هذه الحركة.
يندرج في ذلك أيضاً ما يسمى «نقد الإسلام» الذي يذهب بعيداً في تصوراته الأسطورية لمواجهة أسلمة الغرب. وتكمن المفارقة في أنّ فاعلين أبعد ما يكونون عن العنصرية ينشرونها في اللاوعي الجمعي. ويعزّزها توظيف أيديولوجي لمواقف نقدية تصدر من العالم الإسلامي حيال العنف والإرهاب الصادر من جماعات إسلامية، وعن «غزو» أيديولوجيات الحركات الإسلامية. كما لو أن «الغزو الإسلامي» قد تحقّق. وغالباً ما يهدف هذا التوظيف إلى غايات متضاربة تبدأ من إثارة الخوف الغريزي وصولاً إلى غايات تتطلبها حاجات السوق «الثقافية» بدون أن تغيب عن البال ألاعيب شد العصب الأيديولوجي حيال تهديد محتمل.
يبدو واضحاً أن الإسلام أضحى مجالاً لإسقاطات من الرؤى والمشاعر، تقف خلفها أسباب مغايرة تماماً، فأضحى على قائمة المشكلات الكبرى على المستوى الدولي، إلى جانب مشكلتي التحول المناخي والأزمة الاقتصادية. إن اجتماع هذه المشاكل برأي فايدنر في المراكز الثلاثة الأولى ليس محض مصادفة، فهي تشكل ثالوثاً تقليدياً تنتمي لمجالات الطبيعة والاقتصاد والثقافة، ويُنظر إليها كتحولات خطيرة تهدّد حياة الإنسان، تستدعي ضرورة تسريع عملية التدخل الكفيلة بالوقوف ضد الأخطار المحتملة. لكن حين يحسم الخيار لصالح التدخل (وغالباً ما يكون عسكرياً)، لا يسفر عن تحسّن في الوضع السياسي، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الهدف من تلك التحركات هو إثبات القدرة على الفعل أكثر منه الرغبة في حل المشكلات القائمة. ويظهر الوضع بشكل يبعث على الإحباط حين يتم ربط الاستياء من الإسلام ومخاطره المحتملة التي يمكن تعدادها بكل بساطة في: مخاطر الإرهاب، وهجرة يصعب التحكم فيها، وانعدام الاستقرار السياسي في الدول الإسلامية، والتبعية لبترول الشرق الأوسط، والحرب التي تسبب الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون في اندلاعها في أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى مشاكل ذات طابع ثقافي، لها علاقة بأزمة الهوية التي يعاني منها العديد من المسلمين وغالباً ما تنتهي إلى تشدّد دوغمائي وتطرف ديني. إنها مشكلات جدية في نظر فايدنر، لكنها لا تملك طبيعة واحدة، ولا يرتبط بالضرورة بعضها ببعض، ولا يمكن ردّها ببساطة إلى الإسلام بحد ذاته. إن السبب الرئيس الذي يقف خلف الأزمة، بل خلف انهيار الحياة الدينية أيضاً هو الوضع السياسي، والاقتصادي في العالم الإسلامي. هذا إذا لم نذهب كما فعل عالم الإسلاميات توماس باور إلى مسؤولية الغرب أيضاً عن انكماش الفكر الديني في الإسلام منذ القرن التاسع عشر، عوضاً عن البحث في أصول مشاكل المسلمين وربطها بالنبي وبـ «الأسس السيئة» للإسلام، وهي رؤية تقوم على تصور ساذج عن إسلام واحد. فالإسلام حسب فايدنر لا يقل تنوعاً عن المسيحية، فالانجيلي الأميركي لا يجمعه الكثير بالكاثوليكي الألماني. كما أن الوهابية القادمة من السعودية، تختلف كثيراً عن الإسلام الصوفي في المغرب، أو عن المذهب الشيعي، فضلاً عن الاختلافات داخل البلد نفسه. فالكمالي ـــ نسبة إلى أتاتورك ـــ والعلوي والكردي والسني كلهم مسلمون أتراك، لكن رؤاهم إلى العالم شديدة الاختلاف إلى درجة يمكن أن تحمل معها خطر نشوب صراعات.
هؤلاء الذين ينكرون هذه الاختلافات القائمة بين المسلمين، ينسبون إلى الإسلام قوة سحرية كأنه ليس له إلا صيغة واحدة وفهم واحد ويغفلون التنوع الكبير للعالم الإسلامي. تفكير مماثل يختزل الواقع المعقّد للعالم الإسلامي في صيغة بسيطة، ويسمح لنفسه بإسقاط كل المشاكل الممكنة أياً كان مصدرها على الإسلام وربطها به. من هنا «جاذبيته» الظاهرية. وبالنظر إلى هذا الكم من الإشكاليات التي يتم ربطها بشكل سطحي بالإسلام، ليس مستغرباً أن يوفر هذا الدين من جهته مجال إسقاط لمشاكل الغرب عليه. إسقاطات سنجدها على الأرجح عندنا (وفق فايدنر) وليس في الإسلام.
بناء على هذه المقاربة التي يعتمدها ستيفان فايدنر، فإن هذه التعميمات لا تساعدنا كثيراً. مواجهة الإرهاب الإسلامي تتطلب نهجاً مختلفاً عن ذلك الذي سعى إلى تكوين «غيتوات» للمهاجرين وما صاحبه من ضعف في عملية اندماجهم. إن المشكلتين معاً ـــ الإرهاب وفشل عملية الاندماج ـــ ترتبطان بأسباب أخرى لا علاقة لها بالدين الإسلامي، لأنه لو كان الأمر كذلك لكان كل المسلمين إرهابيين وعاجزين عن الاندماج. والإرهاب الإسلامي شأن أي إرهاب آخر مشكلة سياسية بالأساس، في حين أن فشل الاندماج مشكلة اجتماعية.
يدرك ستيفان فايدنر أهمية النقاش العام في دوائر الثقافة والإعلام في ألمانيا وأوروبا عموماً، كونه يتعلق «بنا وبتصوراتنا لذاتنا» قبل أي شيء. ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى مرآة فبدونها لن نتمكن من رؤية أنفسنا بالمعنى الثقافي بشكل كامل. كما لا يمكننا أن نرى كل جسدنا بدون مرآة، ولم نعدم يوماً هذه المرايا التي عبرها ندرك حقيقتنا الثقافية وهذا يتطلب رفض الصورة السلبية التي كوّنها الأوروبيون والألمان عن الإسلام، ووضع المشكلات في نصابها الحقيقي كي يتسنى حلها بعيداً عن شيطنة «الآخر» وإسقاط المخاوف والإحباطات وفقاً لمبدأ «كبش الفداء» الكلاسيكي على أقلية مجتمعية.
إن التركيز المفرط على الإسلام استغلال لقضية ثقافية يسهل التعامل معها من أجل تناسي القضايا الصعبة، تلك القضايا المتعلقة بالاقتصاد والسياسة البيئية.
من جهة أخرى، فتوجيه الأنظار إلى القضية الثقافية يمثل دليلاً على عودة المكبوت: وأعني معرفة أنه بدون تحول ثقافي، أي التحول على مستوى القيم وتصورات العالم، لن نستطيع التعامل بعقلانية مع مشاكلنا الاقتصادية وتلك التي لها علاقة بالسياسة البيئية، ناهيك بتجاوزها أو حلها بطريقة مناسبة.
«للأسف لا يعمد إلا القليلون فقط إلى النظر إلى الإسلام كعنصر إغناء لثقافتنا» هذا ما يؤكده فايدنر دوماً.
* كاتب سوري