أجّلتُ هذا النص كثيراً، والآن عليَّ نبشهُ من منتصف عام 2007، بكامل بهائه وألمه!. فحتى ذلك الوقت لم أكن أتخيل أنني سأطلُّ مساءً على أضواء القدس البعيدة من أخفض نقطة على الأرض، هناك من بانوراما البحر الميت، ظهرت البلدات الفلسطينية المحتلة وهي تنوسُ وتضيء من بعيدٍ كأنها تلوّح أو تعاتب وربما تريد أن تقول شيئاً!.«يا أخي أنتم السوريين عاطفيون تجاه فلسطين...»، قالت الصديقة سميرة عوض المسؤولة عن الوفد الصحافي العربي المرافق لمهرجان جرش، وهي ترى دموعي أشد ملوحةً من البحر الذي حوّله اليهود إلى شاطئ استجمام واستشفاء من الأمراض الجلدية والعصبية، كأنّ هؤلاء البشر هم عُصاب الأرض العدوانيّ الذي بنى هذه الشاليهات على أجساد أجدادنا منذ وعد بلفور حتى اليوم، أو لكأنهم جدريُّ الأرض الذي عليه التطهّر من تشويه السحنة الآدمية التي فتكوا بها طويلاً!. بالفعل، هم جدريُّ الأرض، ونحن شاماتها، لكنّ عطباً هائلاً قد ألمَّ بالجغرافيا، فجعلها منتهكةً بهذا الشكل!.
بالقرب من مخيم «البكعة» باتجاه جرش، سنحملُ نهَمَ التضاريس القاسية، لبلادٍ قرأناها في الكتب، وحرمتنا منها سايكس بيكو وخلافاتُ الكيانات «الأعدقاء»، وسأعتذر من أسامة المصري، المسرحيّ الحيفاويّ الذي كان يقول لي دائماً: «يا باشا»، فأنا لا أتناول «العلكة» الإسرائيلية، رغم أن ذلك لن يحرر فلسطين، بل يحررني أنا من كل المشاهدات التي حمّلتني وزرها ثم غابت!. يبتسم أسامة، ثم يعيد «العلكة» إلى جيبه قائلاً: لو أنك أخذتها، لانكسرَ شيء كبير في داخلي!
تُرى، هل كان مصادفةً أن ننزل في أوتيل القدس وسط عمّان؟ أم أن متلازمة فلسطين تتبعنا مثل اللعنة التي لا تشفيها كفّاراتٌ إلا على حجم الخذلان الذي ألحقناه بها؟. هناك من شرفة الغرفة 217 في الطابق العاشر، ستظهر تلال «الوطن البديل» وإلغاء حق العودة، نكتةً أمام ملايين الفلسطينيين الذين نزحوا إثر الحروب ومعهم مفاتيح البيوت التي تنتقل كالتعويذة من جيل إلى جيل!.
حصلت على رقم هاتف سميح القاسم، وقلت في نفسي، تلك اليوتوبيا الخيالية لا بد من أن تُتوّج بلقاء يكون بمثابة جردة حساب... لم أكن متيقناً حينها إن كنت سأشكو إلى سميح أم أن سميح سيشكو لي؟. وبالفعل توجهت في الصباح الباكر إلى فندق «ريجنسي» قرب دوار الداخلية، حيث اتفقنا أن نلتقي في التاسعة صباحاً داخل بهو الأوتيل كي نتناول القهوة معاً... إخفاء قلق اللقاء لم يكن سهلاً عليّ منذ اللحظة التي أطل فيها صوت سميح عبر الموبايل، فالشعراء يناقشون عبر المخيلة، ويحكمون على العالم بالنبوءات، وتبعاً لذلك، فهم أنبل من السياسيين وأرفع مرتبة!. قال سميح وهو ينهض على عكازه: أهلاً بالشام وابن الشام... كان دمثاً هادئاً يتحدث وكأنه يعرف كل شيء ومتأكد من كل شيء، لكنني كنت محتاجاً إلى كل هذه السنوات الطوال لأتأكد من ندرة تلك الجوهرة الفلسطينية الثمينة التي غابت بعد سنوات من لقائنا بكامل أحلامها وانكساراتها!.
سميح، من القلائل الذين لا تتسبب معرفتهم الشخصية باغتيال قصائدهم!. فهو ونصوصه وجه واحد... تلك الرزانة المكللة «بالأوبَّهة»، ربما خُلقت لزمن خرافي غير الشقاء الفلسطيني، لهذا لم يقدر على الصبر طويلاً أمام إنهاكِ الطريق... في ذلك الوقت، قال لي سميح بأسى: في فلسطين، عندما ننظر في اتجاه الشمال، نقول لأبنائنا: أتشاهدونَ تلك النجمة البعيدة في السماء؟ إنها تضيء فوق الشام!.
تحدثنا حول الأساطير والاحتلال وقدرية الظرف التاريخي واحتمالات المستقبل، وكانت المسائل محسومة بالنسبة إليه، لكن ما يلزمها هو الوقت!. أشار إلى نبوءات التوراة والتلمود حول الخطر الذي سيداهم اليهود يوماً من الشمال، فهم يرددون ذلك ويحفظونه عن ظهر قلب!. «ألم يأتِ نبوخذ نصّر عبر هذه الطريق الشمالية عندما حرّر فلسطين». هكذا قال سميح!.
لقد أجّلتُ هذا النص دهراً، ومع تقادم السنوات، تحوّل إلى عبءٍ سيزيفيّ أدحرجه أمام أقلامي وأقول سأكتبه لاحقاً... ربما بسبب الوصايا والأسئلة التي أثارها سميح القاسم، في السياسة والأدب والإنسانية، ومن أهمها أن أنقل رأيه إلى المسؤولين بضرورة العمل على تكريس الديمقراطية والحريات لأنها تحمي من المستقبل الغامض الذي يُعدّ للمنطقة، حيث يتطلب الآتي أن نتخلص من الثغرات التي تعتبر قنابل موقوتة!.
لاحقاً، ضاع أرشيف الجريدة التي نشرت حواري مع سميح، ولم يعد بالإمكان العودة إليه إلا ورقياً في عملية مُضنية من البحث، وهذا الحوار لم يتضمن رأي سميح الذي أثبتت السنوات المتتالية أنه بمثابة نبوءات لشاعر يكتشف العالم بالمخيلة الصافية والوجدان الحيّ!.
... نهض سميح لوداعي، وكانت هناك بسمة على شفتيه تؤكد تمسكه بالأمل، وعَبرةٌ في عينيه، تشير إلى قلق كبير غطّى بهو فندق «ريجنسي» وسط عمّان، قبل أن يطفح من الشبابيكِ باتجاه بلاد ممزقة!.

*كاتب سوري