هل الأدب العربي قاصرٌ عن إنتاج نصٍّ يُقارب هموم الإنسان بدون أن يغرق في ثوب المحلية ولا يتخلى عنها في الحين نفسه؟ ستُجيبك عن هذا التساؤل رواية « دفاتر الوراق» للروائي الأردني جلال برجس (المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ـ 2019). وقبل أن نجد طريقاً إلى إجابات أوسع، لا بد من القول إنّي حاولت تأويل النص بحسب أدواتي الخاصة في التلقي، مستذكرة ما قاله هيرمان هسه: «‏في أغلب الحالات لا يكون الكاتب هو المرجع الصحيح الذي يُحدد أين يكفُّ القارئ عن الفهم وأين يبدأ سوء الفهم. وكم من كاتب عثر على قُراء بدا لهم عمله أشدّ شفافية ممّا بدا له هو نفسه. ثم إن سوء الفهم قد يكون مُثمراً في ظروف معينة».
لهذا أجد أنّ «دفاتر الوراق» رواية ذات أفكار رؤيوية مرنة تُعبّر عن الإنسان العربي وواقعه المعيش من خلال شخصية إبراهيم الوراق، هذا الذي يعيش بشخصيتين متناقضتين، فيما يبدو أن التناقض هو أصلُ الحكاية والرابط الحقيقي بينهما، فشخصيته الأولى التي لربما تعبر عنه بشكل أصدق، باعتباره مثقفاً قرأ وتفاعل مع مئات الكتب، بينما الثانية مجرمة تحرضه على القتل وارتكاب جرائم شتى. كما ظهر في متن الرواية: «في داخلي شخص مجرم أريد أن أقتله».
إن التناقض هنا يفضي برأيي إلى أن المفاهيم السائدة التي نرى من خلالها العالم ليست بالضرورة هي التي تشكل وعينا ونظرتنا للأشياء، بل في كثير من الأحيان تؤدي المعرفة في مجتمع يرتهن للماضي - بالرغم أنه يحاول جاهداً إنكارها- إلى العكس.
هنا، تحديداً، تريد الرواية القول بأن المعرفة في ظروف الانحطاط ربما تؤدي إلى الهاوية حيث تصبح الشجرة بلا قيمة أمام النار. قدم برجس هذه الرؤية عبر ما اكتسبه من معرفة في مدارس التحليل النفسي وعبر انحيازه للعلم وقضايا المجتمع بأدوات تحليلية روائية تفكك كل شيء بدون أن تتبعثر خيوط الرواية، بخاصة حين جاء بشخصيات روايات عربية وعالمية وأقام صلات قوية بينها وبين إبراهيم الوراق في سرد محكم وتقنيات عالية تجعل القارئ يتناغم مع السرد بدون أن تضيع منه البوصلة. فقط يحتاج دائماً للحظات استيعاب كي يدرك أن الذي يقرأه برغم غرائبيَته هو محض واقع، بل لعل الواقع الذي نعيشه هذه الأيام بات أكبر مصادفة وغرابة نعجز عن تصديقها. فحينما نتأمل شخصية السيدة إيملي في الرواية ومصيرها الغريب مع إياد نبيل، يختلط الوهم بالحقيقة كما رأت الرواية. إياد نبيل شخص الأزمات العربية الذي ستجد فيه الفساد، واللانتماء، والانتهازية وتلك النظرة الدونية للمرأة وموقفه المضاد من سعيها للتحرر.
في «دفاتر الوراق»، يمارس برجس دور الناقد الروائي في معاينة أزمات المجتمع. فحين اختار تلك العلاقة بين الوراق وشخصيات الروايات العالمية، كان برأيي يود القول - بخاصة حين وجدت ان أزمة الشخصيات هي أزمة إبراهيم نفسها- أن الواقع العربي لم يتغير، وحدها القشور هي التي تغيرت. هنا تطرح الرواية تساؤلاً موجعاً وخطيراً مثل تساؤل الوراق: «ماذا يحدث عندما تسقط قشرة الطلاء»؟ تلك القشرة التي كان سقوطها بداية التحول في الرواية.
استطاع جلال برجس أن يذيب كل الرؤى في عمله الروائي هذا، فحظينا برواية مكتملة بنائيّاً وحكائيّاً، وفنياً، ولم تكن مجرد مجموعة قصص مترابطة فقط، بل برزت قدرته أيضاً في صنع شخصيات قريبة من الواقع بدون إطلاق أحكام عليها، بل كان ديمقراطياً في منح شخصيات روايته حريتها المطلقة. هنا يحضرني قول ورد في فيلم: «‏من السهل الكشف عن عيوب الناس من أجل الحصول على إعجاب القراء. لكن النادر هو الاقتراب أكثر من الشخصيات بدون استنتاج أو إدانة».
ومن ضمن ما يميز «دفاتر الوراق» لغتها التي لا تشعر أنها تنتمي إلى مكان بعينه، لكنّها تقول كل شيء عن مكانها الأصلي من دون أن تغلق الأبواب الأخرى.
وبما أن المهم في كتابة الرواية ليس الموضوع بل كيفية تقديمه للقارئ، نجد في «دفاتر الوراق» براعةً وربطاً بين كل فصولها جاء في لؤلؤة هذه الرواية ألا وهي فكرة أن يتقمص الوراق شخصيات روايات عربية وعالمية، مرر َخلالها تلك الحقيقة الموجعة في أن الزمن العربي يعيش جموده وتبدلاته فقط في القشرة. فأزمة سعيد مهران في «اللص والكلاب» لمحفوظ هي أزمة الوراق ويحاول من خلال كل واحدة منها، أن يقول ما يجب أن يُقال. هذه الميزة تحديداً تظهر أن «دفاتر الوراق» هي دفاتر القارئ وتفاعله مع ما يقرأه. فالشخصيات التي يتلبّسها ترينا نماذج عدة للفرد العربي بشكل خاص والإنسان بصفة عامة، بلغة سلسة عميقة مستكشفة لا تكلّف فيها، مرجعها الإنسان، وحسب، بكل ما يحمله من هموم، إذ نجح برجس في أن يكتب عملاً روائياً متقناً، وهذا هو الفرق بين حكايات المجتمع التي نسمعها، وبين الحكايات التي نقرؤها في الآداب العالمية.
«دفاتر الوراق» رواية غير مغرقة في المحلية إلى درجة الانغلاق، لكنها محلية منفتحة؛ لأن أفكارها تتجاوز اللغة، فليست اللغة المتعالية على القارئ هي من تحمل الأفكار، بل اللغة المرنة هي التي تنقلها، إذ يمكن لأي إنسان في العالم أن يقرأ «دفاتر الوراق» ويعرف عمان بكل ما فيها من أزمات وصراع على صعيدي الماضي والحاضر، فيراه في الآن نفسه حوله رغم المسافات والخصوصيات الثقافية، من هنا قيلت وبتكثيف عال هذه العبارة في الرواية: ‏«عمّان بحر كبير نغرق فيه لكنّنا لا نموت». فشخصية الوراق هي نموذج الإنسان المأزوم والمنتمي في اللحظة نفسها والذي عبّر عنه جلال برجس بعبارة عميقة يقول فيها «ننتمي إلى عقولنا»، منحازاً إلى العقل المنفتح الذي يتفاعل والأدب الجيد الخارج على الواقع بغية تغييره، وهذا ما عبّر عنه ‏بيتر هاندكه ضد الإخلاص للواقع: «أفكّر كقارئ عندما أكتب. القارئ الذي فيّ لا يريد أن يجد في ما يقرأه نسخة طبق الأصل عمّا يحياه في حياته. الإخلاص للواقع في الأدب قلباً وقالباً ليس فضيلة. القارئ يرغب على ما أعتقد بأن يحلّق، أن يستكشف آفاقاً أخرى، إن على مستوى المضمون أو اللغة».
فمن هنا ومن مساءلة الواقع طرحت الرواية سؤالها المهم: «ما الذي تغير عربياً منذ العام 1947 إلى العام 2019؟»، إذ تشير الرواية إلى أن القشور وحدها التي تغيّرت!
إن عبقرية الكاتب في هذه الرواية تجلت في صنع شخصية واقعية وخيالية جداً، في مزيج مقنع يجعلك تستمع بـ «دفاتر الوراق» كرواية، لكنك حين تخرج منها، تعيد استقراءها من جديد في كلّ شيء من حولك.