تبدو الكتابة لنا أمراً بديهياً. غالباً ما ننسى أنها ما وُجدت خلال عصور طويلة من تاريخ البشريّة، وأنها اختُرعت في يوم من الأيام. يُخبرنا المؤرخ وعالِم الأشوريات جان بوتيرو عن اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين حيث كانت الكتابة الأولى، يتتبّع مسارها والثورة الفكريّة التي أحدثتها، ويذكّرنا، في مقاله La première écriture المنشور في كتاب L’Orient ancien et nous، بأنّ الكتابة ليست ظاهرة إنسانيّة طبيعيّة كالنَّظر والأكل إنما هي فعل حضاري كالفنّ والطبخ وكل ما راكمه الإنسان وأَضافه إلى طبيعته.
ما قبل التاريخ إلى حقبة أوروك
من الصعب، وربما من المُحال كشف البدايات، خاصة بدايات تاريخ البشريّة الذي يوغل في عمق عصور ما قبل التاريخ. تنتهي هذه العصور، حسب تصنيف المؤرخين، مع اختراع الكتابة التي تُشكّل الفاصل بين مرحلة ما قبل التاريخ والمراحل التاريخيّة. لم تظهر الكتابة فجأةً، بل هي نِتاج تطور حضاري طويل. لقد بدأت المجتمعات القرويّة في بلاد الرافدين، منذ العصر الحجري الحديث الفخاري الممتد من الألف السابع إلى الخامس ق.م.، بمسار من التحوّلات البطيئة التي تَكثّفت وتسارعت في العصر النحاسي أي في الألف الرابع ق.م. أنتجت، في نهاية المطاف، الكتابة. كان للحيّز الجغرافي الحاضن لهذه المجتمعات تأثير واضح دفع بهم في هذا الاتجاه. فالمكان بطبيعته ومناخه لا يَسهل العيش فيه، لذا كان على أهالي القرى الزراعيّة المنتشرة في جنوب ما بين النهرين، أي جنوب العراق اليوم، أن يبتكروا لتذلّل الصعاب. هكذا، أبدعوا وأنتجوا ما لم ينتجه أحد من قبل. لقد كُوّن للمرة الأولى ما يُعرف بالمدينة، وتَحوّلت، خلال الألف الرابع ق.م.، إلى مجتمعات مدنيّة. وفي إطار هذا التحوّل، ظهرت الكتابة. إن المدينة والكتابة ظاهرتان متلازمتان لا يمكن الفصل بينهما، فالكتابة هي نتاج التمدّن الذي ما كان ليستمر من دونها.
كانت المجتمعات القرويّة، المعتمِدة زراعتها على مياه الأمطار، تتكاثر وتنتشر، أي أنّ تزايد عدد سكان القرية كان يؤدي تلقائياً إلى انفصال جزء من السكان عن المجموعة، فيرتحلون ويؤسسون قرية أخرى. وهكذا، كما يقول عالم الآثار جان- دانيل فورست، كانت هذه المجتمعات تعيد إنتاج نفسها على النمط ذاته والصورة ذاتها. إلا أنّ قلة الأمطار والتحديات المناخيّة التي واجهتها مجتمعات جنوب بلاد الرافدين، أدّت بها الى ابتكار وسيلة لتأمين المياه الكافية للمزروعات. وكان هذا الابتكار هو الريّ الذي يتطلب الكثير من العمل والكدّ لشقّ القنوات وبناء السدود وتحويل المياه عند فيضان الأنهر وصيانة القنوات باستمرار وما إلى ذلك من الجهد الذي أُضيف إلى العناء المطلوب للزراعة ومتطلباتها. تحتاج هذه الأعمال إلى جهود كبيرة، فما كانت لتُنفّذ إلا بتضامن وتكافل جميع سكان القرية. لذلك، لم تتبع مجتمعات جنوب العراق عمليّة الانتشار الدوري كغيرها، بل تكاثرت في مكان واحد. توسّعت القرى وازداد عدد سكانها وأضحت بحاجة إلى تنظيم وإدارة، فأفرزت نخبة مهمتها الإشراف على حسن سير الأعمال وتنظيمها وتوزيع المهامّ كما الإنتاج على الجميع. وما لبثت أن تحوّلت هذه النُّخبة إلى نُخبة حاكمة لها متطلباتها هي أيضاً إلى جانب ازدياد الحاجات الاجتماعية، فبدأت عمليّة التخصّص في العمل وأصبح لكل شخص مهارة يتقنها أي مهنة خاصة به، بخلاف ما كان شائعاً في المجتمعات القرويّة حيث كان الجميع يُتقن كل الأعمال. مع هذه المتغيّرات، كان لا بدّ من الإبداع لمواكبة حاجات المجتمع المستجدّة وخاصة الإدارية منها، فكانت الكتابة. حصلت هذه التحوّلات الكثيفة في العديد من القرى المنتشرة في جنوب الرافدين، إلا أننا نستطيع تتبّع هذا التطور بوضوح في إحداها التي يبدو أنّها شهدت تسارعاً في تحوّلاتها وهي مدينة أوروك. لذلك، استعار علماء الآثار اسمها لتعريف هذه الحقبة التاريخية، فأصبح يُعرف الألف الرابع ق.م. في بلاد الرافدين، والذي شهد تغيّر نمط حياة المجتمع من قروي الى مُدني، بحقبة أوروك.
صارت اللغة الأكّادية، خلال الألف الثاني، كتابة عالميّة اعتُمدت في كل الشرق الأوسط القديم كأداة للتواصل الدبلوماسي


نقش ورسم ورموز
قبل ظهور الكتابة بآلاف السنين، كانت مجتمعات العصر الحجري الحديث القرويّة في الشرق الأوسط، تعبّر عن نفسها عبر نقش الصور على الحجارة أو الرسم على جدران المنازل كما في بلدة جاتال هويوك مثلاً، الواقعة في جنوب الأناضول، حيث اكتُشفت قائمة إيقونوغرافيّة غنيّة. ولعلّ الحاجة والقدرة على التعبير عن النفس ونقل الانطباعات الفكريّة أو الحكايات عبر رسائل مرسومة هي من الميزات الجوهريّة لطبيعة الإنسان بنسخته الأخيرة أي الإنسان العاقل. يعتقد عالم الآثار والأنثروبولوجيا إمانويال اناتي، أنّ كل الرسومات الماقبل تاريخية هي نوع من كتابة أوّليّة أو بدائية سبقت الكتابة كما عرفناها لاحقاً. في بلاد الرافدين، شرع سكان القرى، منذ الألف السابع ق.م.، بالرسم على الأواني الفخاريّة التي تعمّم استخدامها. وقد تحوّلت تلك الرسوم المؤلفة من أشكال هندسية وحيوانية وإنسانية وتطورت على مدى آلاف السنين. إن هذا التقليد الفني هو الذي مهّد، وفق بوتيرو، لاختراع الكتابة. لقد تمرّس الناس من خلاله في عرض وتركيز انطباعاتهم، وتُعتَبر هذه الرسوم تجسيداً، ربما مقونناً، لإيحاءات معيّنة تجول في خاطر الإنسان من دون أن تقدّم شرحاً لأفكار واضحة. كذلك، أكسبهم هذا التقليد خبرة في الرسم التخطيطي وإتقاناً في العرض التبسيطي من خلال التصميم المختصر للأشياء المرسومة من بضعة خطوط. يكفي مثلاً لتصوير السنبلة خطّ جذع مع أربع خصل على وجه الإناء الفخاري. وقد طُوِّع، على ما يبدو، هذا النمط من التعبير، خلال الألف الرابع عندما تكثّفت تحولات هذه المجتمعات وأصبحت بحاجة إلى تنظيم نفسها على المستوى الإداري، فاستُخدم بهدف تسجيل العمليّات الإدارية وخاصة الحسابية منها.
كَثُرت الحسابات والتبادلات في حقبة أوروك ولم تعد ذاكرة الإنسان قادرة على استيعاب كل المعلومات، فاحتاجت إلى مساعد للذاكرة. يبدو أنّ هذا المساعد كان عبارة عن رموز طينية هي قطع صغيرة مسطّحة من الطين بأشكال وأحجام مختلفة تُستخدم لتحديد الكمية العدديّة للبضاعة التي تُباع أو تُستأجر أو تُنقل من مكان إلى آخر. كانت تُوضع داخل فقاعة طينيّة كروية الشكل ومجوّفة من الداخل، تُقفل بإحكام وبداخلها الرموز الطينية ويُثبَّت عليها من الخارج ختم أُسطواني يحدّد هوية مُرسِل البضاعة. مثلاً، إذا أردنا نقل عدد معين من الجرار المليئة بالمواد الغذائية لاستبدالها ببضاعة أخرى أو لتوزيعها على السكان، نستخدم هذه الرموز الطينية لتحديد عدد الجرار. فإذا أرسلنا اثنتي عشرة جرّة، نضع اثني عشر رمزاً داخل الفقاعة ونرسلها مع البضاعة. حين تصل البضاعة إلى الجهة المُرسلة إليها، تُفتح الفقاعة وتُستخرج الرموز للتأكّد من عدد الجرار. لم يقتصر استخدام هذه التقنية على جنوب العراق، بل توسّع ليطاول تبادلاته مع منطقة عيلام المجاورة وخاصة بلدة سوسا في الأهواز جنوب غرب إيران اليوم. تغيّرت لاحقاً طريقة استخدام هذه الرموز الطينية، فأصبحت تُلصق على المساحة الخارجيّة للفقاعة بجانب الختم، بدل أن تُوضع في داخلها، لتسهيل هذه العمليّة وتفادي كسر الفقاعة. هكذا تحولت الرموز إلى أرقام. تسطّحت الفقاعة وأخذت شكل الألواح الطينية وظهرت كتابة الأرقام أولاً. وقد اقترنت هذه الأرقام بالرسوم التخطيطية الممثّلة للأشياء المنويّ حسابها. وهكذا نشأت الكتابة الأولى في بلاد الرافدين التي كانت أداة مساعِدة للتذكُّر في العمليّات الحسابّية. لكنّ أهمية القدرة التي اخترعت الكتابة، لا تقتصر، برأي بوتيرو، على تسجيل الحساب، بل تَكمن في إدراك العقل البشري إمكانيّة توجيه رسالة واضحة من خلال استخدام مُنظّم ومُقَونن لعدد محدّد من الرسوم التخطيطية بأشكال موحّدة يتم التعرّف إليها في كل مكان. وكانت أقدم هذه الألواح، المكتشفة في أوروك، تحوي رسومات تبسيطية متداخلة مع الرموز الرقمية، وتتضمّن معلومات مرتبطة بحسابات إدارية. كما أنّ بعضها يعرض ما يشبه الفهارس والقوائم المعجمية لتعريف معنى الرموز، وتعود هذه المستندات إلى حوالى٣٣٠٠ ق.م.

من أقدم الألواح الطينية الإدارية المكتشفة في أوروك

سومريون وأكّاديون
تُشير الكثير من الدلائل إلى أنّ هذه الكتابة الأولى دوَّنت، منذ نشأتها، اللغة السومرية التي سنتعرف عليها بوضوح من خلال كتابات الألف الثالث ق.م. هذا يوحي، كما يفترض فورست، أنّ مجتمعات جنوب الرافدين في حقبة أوروك، وهي المرحلة الانتقالية بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية، هي سومرية، وربما استوطن هذا الشعب المكان منذ زمن بعيد أي منذ العصر الحجري الحديث، إذ لم نشهد بين الألف الخامس والرابع أي تبدل ثقافي، بل تطوّراً وتحولاً للثقافة عينها. لكننا نتفادى، عادة، تحديد هوية شعوب ما قبل التاريخ لغياب الكتابة، إذ أنّ أسماء الشعوب غالباً ما ترتبط باسم لغتها المكتوبة. ابتكر السومريّون هذه الكتابة وتَحّولت معهم على امتداد الألف الثالث وعبّرت عن لغتهم. كذلك اعتمدها الأكّاديون وعبّروا من خلالها عن لغتهم أيضاً، وأسهموا في تطويرها خاصة خلال الجزء الثاني من الألف الثالث ق.م. إنّ تقارب وتكافل الثقافة السومريّة والثقافة الأكديّة، منذ بدء التاريخ، هما، بالنسبة إلى بوتيرو، العنصر الأساس في نشوء حضارة بلاد ما بين النهرين. فهي حضارة مركّبة ناتجة عن تمازج وتعايش هذين الشعبين. لا يمكننا تتبّع حركة الأكّاديين ولا تحديد فترة بدء التقارب بين هذين الشعبين ذوي الأصول المختلفة. السومريون شعب فريد لا نعرف أصله ولا ينتمي إلى أي عائلة من الشعوب، لا هو ولا لغته. أما الأكّاديون، فهم ساميون والأكّادية أقدم لغة سامية مكتوبة. ظهرت أول كتابة سومريّة حوالى سنة ٣٣٠٠ ق.م. وهي كتابة تصويرية ورمزية. من ثم تحولت إلى كتابة مقطعيّة. هذا الشق المقطعي منها سرعان ما تطور مع كتابة اللغة الأكّادية حتى أصبحت هذه الأخيرة، خلال الألف الثاني، كتابة عالميّة اعتُمدت في كل الشرق الأوسط القديم كأداة للتواصل الدبلوماسي. كيف حصل هذا التحوّل الذي يتطلب عملاً ذهنياً منطقياً وممنهجاً لربط الأشياء والأفكار بالصور والرموز ثم ربط هذه الرموز بالمقاطع واللفظ؟

من الرمزية إلى المقطعية
تكتفي الكتابات الأولى، السومرية التصويريّة والرمزيّة، بعرض شيء أو فكرة. وكانت تتألف من عدد هائل من الرموز أي ما يقارب الألف رمز. كل رمز هو كناية عن رسم يجسّد بالضبط ما يصوَّر أكان شيئاً أو فكرة (ويُسمّى رمز الشيء أو رمز الفكرة). تُشكّل هذه الكتابة نوعاً من استنساخ واقع الأشياء. مثلاً، لنكتب إناء أو سنبلة نقدم رسماً تخطيطياً لشكل الإناء أو السنبلة. لكن الأغراض والبضائع التي تدخل ضمن العمليّات الحسابية كانت كثيرة: مواش ومواد غذائية وصناعات حرفية... ولو احتجنا إلى رمز لكل غرض، لطالت اللائحة إلى ما لا نهاية. كان لا بدّ من تخفيف عدد الرموز والرسوم وإجراء عمليّة تقليص عبر منح عدة أشياء رمزاً واحداً. فأصبح للأشياء المتشابهة بطبيعتها أو وفق الذهنية السائدة الرمز نفسه، فأصبحت السنبلة رمزاً لكل أنواع الحبوب، ورسمة القدم تُجسّد أكثر من وضعية جسدية، فتعني الوقوف أو المشي أو التنقل. أما رسم الجبل، فكان يعني، بطبيعة الحال، جبلاً لكنه يعني أيضاً الغريب لأنّ بلاد الرافدين كانت محاطة من الشمال والشرق بالجبال، وكل من يأتي من وراء الجبال يكون غريباً، فأصبح رسم الجبل يحمل هذا المعنى أيضاً. نحصل أحياناً عبر جمع رمزين أو أكثر على معنى مختلف، فتتالي رمزَي المحراث والخشب مثلاً يعني أداة زراعية، وإذا أُضيف إليهما رسم إنسان، تصبح هذه الرموز الثلاثة تعني المزارع. وهكذا أصبح للرمز الواحد أكثر من معنى مرتبط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالشيء الذي يصوّره، كما يتغير معناه حسب الرموز المحيطة به. أطلق بوتيرو على هذه الكتابة الرمزيّة اسم «كتابة الأشياء»، وهي المرحلة الأولى من الكتابة. فالرموز في «كتابة الأشياء» منفصلة تماماً عن لفظ الكلمات في اللغة المحكيّة.
المسماري هو خطّ اختُرع في سياق تَطور كتابة اللغة السومرية-الأكّادية


تطوّرت هذه الكتابة على مدى قرنين أو ثلاثة لتصبح «كتابة كلمات» كما يسميها بوتيرو. يُكتب السهم مثلاً على شكل رسم تخطيطي للسهم، فشكل السهم هو رمز يعني ببساطة سهماً، ولكنه يعني أيضاً حياة. ونلحظ هنا أنّ رمزاً واحداً أصبح يحمل معنيين مختلفين غير مرتبط أحدهما بالآخر إطلاقاً، فما الذي جمع بينهما؟ يبدو، وفق بوتيرو، أنّ لفظ كلمة «سهم» مطابق للفظ كلمة «حياة» في اللغة السومرية المحكيّة. هكذا دخل بعدٌ آخر على الكتابة وهو البعد اللفظي والصوتي، أي أنّ الرموز التصويريّة لم تعد مرتبطة فقط بشكل الشيء لكنها، بالإضافة إلى ذلك، أصبحت مرتبطة بلفظه في اللغة المحكيّة وبالصوت الذي يصدر من حنجرة الإنسان عندما يتكلم عنه. لم يعد الرمز يشير فقط إلى الشيء الذي يصوّره، بل أيضاً إلى الكلمة التي تعنيه. وبما أن اللغة السومرية هي لغة داغمة تحوي عدداً كبيراً من الكلمات الأُحادية المقطع التي تُلفظ بصوت واحد، أضحى الرمز، المتصل بالصورة والفكرة أساساً، متصلاً أيضاً بالصوت. في اللغة السومرية، لفظ «ان»، مثلاً، المؤلف من مقطع واحد يعني السماء. وقد أصبحت كل كلمة تُكتب على شكل الشيء الذي تعنيه، تعود أيضاً إلى لفظ صوتي واحد أي إلى مقطع. وهكذا أضحت هذه الرموز أشياء ومقاطع في آن معاً، فانتقلنا بذلك إلى الكتابة المقطعيّة والصوتيّة. أصبحت الكتابة كتابة كلمات وأصوات، وتداخلت باللغة المحكيّة وتحوّلت من مساعد للذاكِرة إلى نظام ممنهج قادر على تثبيت وتركيز اللغة.
نظام الكتابة هذا يجمع النمطين، الكتابة الرمزيّة والكتابة المقطعيّة. يشرح لنا بوتيرو أنّ الكتابة المقطعيّة لم تلغِ دور رمز الفكرة، خاصةً أنّ السومرية لغة داغمة، وهذا يعني أنّ كلماتها ثابتة لا تتحول حسب موقعها في الجملة. فحافظت على الدور الأساسي للرمز المتصل بواقع الأشياء وأضافت إليه، كمساعد في التعبير، دوره المقطعي. وهنا يدخل تأثير اللغة الأكّادية على تطور الكتابة. إذ إنّ كتابة هذه اللغة طَوّرت استخدام الرمز كمقطع وعزّزت اتصاله باللفظ الصوتي. فالأكّادية لغة ساميّة مُعرَبَة، مثل العربية تماماً، أي أنّ لفظ كلماتها يتغير حسب موقعها من الإعراب، ما يحتّم كِثرة استخدام الرموز كمقاطع. لا نستطيع، في اللغة الأكّادية، كتابة كلمة من خلال رمز واحد. علينا أن نضيف ما يحدد موقعها من الإعراب أي ما يشبه الرفع أو النصب، ولكل من هذه الأصوات رموز. اتجهت الكتابة منذ النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. نحو الكتابة المقطعيّة. عمّم الأكّاديون ونشروا الاستخدام الصوتي للرموز، ما أدى تلقائياً إلى تخفيف عدد الرموز إلى النصف. لكنّ هذه الكتابة المقطعيّة لم تستغن عن رمز الشيء أو الفكرة، بل مزجت القيمتين الرمزيّة والمقطعيّة. كل رمز يحمل إمكانية أن يكون رمز شيء وفكرة أو رمزاً مقطعياً. وبما أنّ كل رمز فكرة يجسّد معانيَ متعددة كرمز السنبلة الذي يجسّد كل أنواع الحبوب ويعني مثلاً القمح والعدس والحمص... أصبح تلقائياً يُلفظ بطرق عدة، وبالتالي يرمز إلى الفاظ صوتيّة عدة، ويُعبّر عن مقاطع عدة. فسياق النص هو الذي يحدد نوع الرمز ومعناه كما يحدد اللغة المكتوبة، أكانت سومرية أم أكّادية. كما أنّ هيكلية النص المتينة تُوجّه القارئ وتساعده على اختيار طريقة قراءة المقاطع، ما يُخفض، وغالباً يلغي، حيرة القُرّاء والكَتَبة عند اطّلاعهم على النص (بالإمكان تشبيه ذلك، إلى حد ما، بكتابة اللغة العربية التي غالباً ما تُدون كلماتها بدون تحريك، فسياق النص هو الذي يتيح للقارئ تحديد حركات الكلمات). وكما يؤكد بوتيرو، فإن كل هذا التحوّل جعل من الكتابة السومّرية-الأكّادية كتابة مبنيّة على نظام متجانس ومنطقي ومرن له القدرة الكاملة على التعبير وتجسيد كل ما تحتويه اللغة، فهي كتابة بكل ما للكلمة من معنى.
مع مجمل هذه التحولات، تغيّرت أشكال الرموز واتجهت نحو التجريد بسبب تبدّل طريقة الكتابة. في البداية، أي في أواخر الألف الرابع، كُتبت الرموز على شكل صُور. كانت حينها تُرسم بواسطة منقاش الرَّسم على الألواح الطينية. تغيّرت طريقة الكتابة وتغيّر معها شكل الرموز. هذا التحوّل طاول فقط شكل الرموز التي تغيرت هيئتها ولكنها حافظت على معانيها. لقد أصبحت الرموز تُطبع على الطين بواسطة أقلام القصب الرباعيّة الأطراف، التي تشبه العيدان المستخدمة حالياً للأكل في البلدان الآسيوية، ما ألغى إمكانيّة التقويس ومنحَ الرموز هيئة تشبه المسامير، ما جعلها تتجه نحو التجريد، فتحولت بذلك الرموز إلى أشكال مسمارية مجرّدة. وأسماها علماء الآثار واللغات القديمة الذين فكّوا رموزها بالكتابة المسماريّة. المسماري إذاً هو خطّ اختُرع في سياق تَطَور كتابة اللغة السومرية-الأكّادية، واستعاره في ما بعد العديد من شعوب الشرق الأوسط القديم للتعبير ولكتابة لغاتها.

تحوّل شكل الرموز من صُورية الى مسمارية: بقرة، سمكة، نجمة

نقلة نوعية
أحدَث اختراع الكتابة نقلة نوعية في الفكر البشري. هذا الابتكار ليس مجرد اكتشاف آليّة للتدوين بل هو، حسب ما يورد بوتيرو، اختراعٌ يعكس قدرة الإنسان على عزل أفكاره والتعامل معها. الكتابة هي بمثابة تَحوّل في النفس البشريّة، إذ إنّها أتاحت لأفكار الإنسان أن تَمثُل أمامه وتأخذ أشكالاً واضحة. لقد انبثقت هذه الأفكار من العقل الإنساني لكنها، عبر الكتابة، أصبح لها وجود ثابت خارجه وبمعزل عنه. لقد فَصل الإنسان فكره عن نفسه، يقول بوتيرو، وقدّمه على شكل صور ورموز. لربما ظهرت هذه القدرة على عزل الفكرة منذ الرسومات الماقبل تاريخية من خلال التعبير عن إيحاءات أو حكايات. لكن مع الكتابة أضحت لعملية الفصل أبعاد أخرى، إذ مكّنت العقل البشري من إظهار وبَلورة أفكاره بوضوحها وعمقها ضمن مَنهج مُنظّم ومُتعارف عليه، ما خلق نوعيّة ومنهجيّة تفكير غير مسبوقة تُؤثّر في كل ما يُمكن للإنسان أن يستوعبه ويفهمه ويعرضه وينقله أكان على مستوى الأحداث أم على مستوى الأفكار. على غرار اللغة المحكيّة، تُشكّل الكتابة طريقة للتعبير. اللغة المحكيّة هي النمط والإطار الأول للتعبير ولامتداد الفكر البشري والأداة المثلى للتواصل والتبادل وتعزيز الروابط الاجتماعيّة، إلا أنها محدودة الإمكانات. يستلزم الحديث الشفهي تواجداً متزامناً، في المكان والزمان، لفمٍ يتكلم وأذن تصغي، فلا تمتد فعاليّة الحديث أبعد من مدى هذه المقابلة. يمكن حفظ الحديث بشكل غير كامل أو اختزال انطباع شامل عنه، ولكن من المستحيل الاحتفاظ بكليّته وبدقته. وكما يقول بوتيرو، الكلام مثل المياه الجارية لا يمكن ضبطه، فهو يتغير ويتحول من لسان إلى آخر. فكما أنّه «لا يمكن أن تنزل النهر نفسه مرتين»، لا يمكن أن تُعيد الحديث نفسه مرتين إلا إذا كتبته. يُثبَّت الحديث عبر الكتابة ويُركَّز بكل تفاصيله، كما أنّه يتخطى، من خلالها، المساحة والوقت ويصبح قابلاً للنشر في كل مكان وزمان. وهكذا تُحوّل الكتابة الكلام إلى كيان مستقل، له وجود حسي ومادي، ما يُتيح قراءته وتفحّصه وتحليله وتقسيم أجزائه وأفكاره وصوره وكلماته. ولا تقتصر الأمور عند هذا الحد، فكتابة الحديث تُتيح المجال للتفكير عليه والإضافة على معانيه وتوسيع أفكاره أو تحويرها أو نقضها، ما يؤدي إلى التراكم المعرفي الفكري. وحده الحديث المكتوب قادر على تأسيس أنماط من النُّظم العلميّة والمعرفيّة والدينيّة والأدبيّة. اختراع الكتابة هو بمثابة الثورة في العقل البشري، كما يؤكد بوتيرو، إذ أنّ الكتابة قَولبت ونمّت الأذهان البشريّة وأحدثت تحويراً في نمط التفكير البشريّ. لذا فإن اختراع الكتابة هو أهم وأبدع المساهمات التي منحتها حضارة بلاد الرافدين إلى الحضارة البشرية بكليّتها.
* دكتورة في الجامعة اللبنانية



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا