انطلقت فكرة كتاب «حماة الباب الأخير» بعد أيامٍ من هجوم قوات الأمن البحرينية على «ساحة الفداء»، الحدث الذي فرض أهمية حفظ وتوثيق وأرشفة التجاوزات والتغييرات التي طرأت على الساحة. ولأن الساحة هي فضاءٌ مكاني، كان خيار «مركز أوال للدراسات والتوثيق» (1) بأن نتجه إلى تدوين ذاكرة المكان التي تحتل حيزاً من اهتمامات المركز البحثية والتوثيقية. فبعد تجربة تدوين قصص الجدات ومعلمات القرآن وإصدار مجلة «أرشيفو» (2) المتخصّصة في حفظ الأعمال الأرشيفية من مهن وحرف وصور، يسعى «أوال» إلى أن يكون بيتاً للذاكرة، يحكي قصص التاريخ المفقود ويجعله شاخصاً أمامنا. والغوص في ذاكرة المكان له متعة خاصة، اذ أنه ينزع من الأماكن جموديتها ويضخّ فيها النبض لتسرد قصتها بلسان من سكنها وتجوّل في أرجائها. فكيف إذا كان المكان عبارةً عن ساحة عامة؟ قد يرى بعضهم أنّ وظيفة الساحات الأساسية تكمن في كونها مساحات ضرورية في المدن لتوزيع حركة السير وتقاطعات الشوارع، لكنها سرعان ما تطوّرت لتحمل أسماء محطات سياسية واجتماعية، وغدت تشكل إرث هذه المدن وذاكرتها. فهل لكم أن تتصوّروا بيروت، على سبيل المثال، من دون ساحة الشهداء وتمثال المرأة التي تحمل مشعل حرية وتحضن شهيداً يظهر من خلفها وآخر سقط أرضاً (من نحت الفنان الإيطالي مارينو مازاكوراتي)؟ ماذا عن القاهرة و«ميدان التحرير» الذي تزيّن زاويته «مكتبة مدبولي»، و«ساحة 14 جانفي» في تونس التي يحرس جانباً منها تمثال للرئيس الحبيب بورقيبة جالساً على حصانه، و«ميدان التحرير» في العراق، و«ساحة المرجة» في دمشق و«السبع بحرات» التي دمّرتها الحرب في حلب؟
احتضنت «ساحة الفداء» فعلاً سياسياً واجتماعياً على مدى أكثر من عام


فماذا تكون «ساحة الفداء»؟ وكيف تحولت من مجرد حيّزٍ مكانيّ في قرية الدراز (3) البحرينية إلى ساحة احتضنت فعلاً سياسياً واجتماعياً على مدى أكثر من عام؟ هذه البقعة الجغرافية، التي أسفرت أحداثها حتى لحظة الهجوم الأخير في 23 أيار من عام 2017 عن اعتقال أكثر من ثلاثمائة شاب وارتقاء خمسة شهداء، ظلّت ولّادة وحفلت بقصص كثيرة لم تنتهِ، ولكي تكتمل عناصر الرواية، خضنا في «مركز أوال للدراسات والتوثيق» رحلة جمعنا فيها شهادات مرابطين عايشوا الحدث، من رجال ونساء وشباب وعلماء، جمعوا بين دراستهم ونضالهم على مدى 337 يوماً.
لم يكن من اليسير بالنسبة إلينا أن نجمع شهادات في بلدان مختلفة (حيث يقيم الرواة الذين عايشوا الحدث)، عبر عدد من الوسائل، وتجاوز مجموعها مئة ساعة من التسجيلات، فشكّلت نواة العمل بعد تفريغها. وانطلقنا في الكتاب المُكوّن من 21 شهادة، لنورده في خمسة فصول ترسم لنا قصة حماية الباب الأخير الذي يمثل كل وجودهم وانتمائهم وارتباطهم بوطنهم ومعتقداتهم في «ساحة الفداء».
هذا العمل، القائم على تحويل الشهادات الشفوية إلى وثائق، يوثّق حدثاً مهماً صنعه الشعب البحريني، وهو من الأدوات التي تحفظ قصص الشعوب وتاريخها بعيداً عن الرواية الرسمية، الممهورة بتوقيعات وطوابع تحفظ التاريخ الرسمي الثقيل، الساعي دائماً لنقل القصة وفقاً لسرديته الخاصة.
* المدير التنفيذي لـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق»

هوامش
1 ــ «مركز أوال للدراسات والتوثيق» مؤسسة بحرينية أنشِئت في لندن في شباط (فبراير) من عام 2012، وهو يُعنى بقضايا الخليج بشكل عام والبحرين بشكل خاص ويهدف إلى حفظ الذاكرة البحرينية ومواكبة الأحداث المستجدّة أولًا بأول. من أبرز إصداراته موسوعة «أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية ١٨٢٠-١٩٧١».
2- مجلة «أرشيفو» نشرة فصلية تصدر عن «مركز أوال للدراسات والتوثيق»، وتُعنى بقضايا الأرشيف، وتنطلق من البحرين إلى الخليج ثم إلى العالم العربي وخارجه. وتغطي عدداً من المجالات منها المشكلات التي تواجه الأرشيف، وطرق حفظ الأرشيف، والتعريف بأصحاب الأرشيف الأهلي ومراكز الأرشيف الرسمي، والتعريف بالمدوّنات والمواقع الإلكترونية المهتمة بالوثائق والأرشيف من بين موضوعات أخرى. صدر منها 12 عدداً حتى الآن، وهي متوافرة أيضاً بشكل رقمي على مدونة أرشيفو عبر الإنترنت.
3ـــ قرية الدراز من أكبر قرى البحرين، يتجاوز عدد سكانها 20 ألف نسمة، وهي قرية تضرب بجذورها في عمق التاريخ القديم، كما كانت في واجهة الأحداث في البحرين، إذ إنها إحدى أبرز المناطق التي شهدت احتجاجات منذ حراك 14 فبراير( شباط) 2011. شكّلت الدّراز مصدر أرق للسلطات البحرينية مع توافد البحرينيين إليها للاعتصام في «ساحة الفداء» منذ اللحظة الأولى لسماعهم خبر إسقاط جنسية الشيخ عيسى قاسم، وحتى الهجوم الأخير من قبل قوات الأمن البحرينية لفضّ الاعتصام. علماً أنّ آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم من بلدة الدراز غرب العاصمة المنامة، يمتلك أكبر قاعدة شعبية في البلاد وتعتبره الغالبية الشيعية في البحرين قائداً لها، وله عدد من المواقف الوطنية، وهو يحظى بشعبية كبيرة في عموم الخليج والمنطقة. شارك كعضو في المجلس التأسيسي لوضع دستور للبحرين عام 1971. ومع بدء قيام المجلس التأسيسي لوضع دستور دولة البحرين، ترشّح له وفاز بأعلى الأصوات. وفي عام 1971، رشّح نفسه للمجلس الوطني إلى أن تم حلّه، وكان من أبرز مؤسسي «جمعية التوعية الإسلامية» عام 1971. يُنظَر إليه باعتباره الأب الروحي للبحرينيين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا