يبدأ فيلم Sound of Metal (مرشّح لأوسكار أفضل فيلم، أفضل ممثل، أفضل سيناريو أصلي، أفضل ممثل مساعد، أفضل مونتاج، أفضل صوت) بحفلة صاخبة لموسيقى الهيفي ميتال. لدقائق، تصمّ موجات الصوت العالية آذاننا، ثم يسود صمت رهيب. صمت مرعب، موجع، يصبح أعلى من أي شيء نسمعه. خلق المخرج داريوس ماردير ومصمم الصوت نيكولا بيكير تجربة سينمائية حسية تعتمد على الصوت وتعابير العيون والإيماءات ولغة الجسد. «صوت الحديد» يرافق عازف الدرامز روبن (ريز أحمد) في رحلته لقبول واقعه الجديد. ندخل مع روبن الذي جُرد فجأة من سَمَعه إلى منطقة أخرى بعيدة عن السنتمالية إلى واقعية أكثر إيجازاً. نعيش مع روبن ومع أصواته، بدءاً من الانفجار الصاخب لموسيقى الميتال إلى صوت الذبذبات الداخلية التي ترافق تدهور حالة روبن السمعية والنفسية. يجذبنا الفيلم بأصواته وصمته، ويتجاوز ذلك عبر رحلة النضال الفردية لروبن الذي يحاول أن يتقبل نفسه ويجد مكاناً له في العالم. يتغير الواقع في الفيلم مع تغير الأصوات التي نسمعها ويسمعها روبن. يستخدم الصوت في الفيلم بالتوازي مع حالته العقلية والنفسية. مزيج الأصوات بين داخل عقل وجسد روبن والخارج، يسمح لنا بفهم تراكم الأحاسيس التي تؤثر في كلّ أفعاله. يرهق الشريط آذاننا، ولا يريحها لغاية نهاية الفيلم وسط صراخ الصمت. على الرغم من قوة القصة والسيناريو والإخراج، إلا أن الثقل الأكبر يأتي في الصوت... بعدما عمل مع أهم المخرجين والأفلام في العالم؛ خطف نيكولا بيكير آذاننا في الفيلم وترشح بأحقية لأهم جوائز هذا العام منها البافتا (ربحها في احتفال الأمس عن فئة أفضل صوت) ومن المتوقع أن يحصد جائزة أفضل صوت في احتفال الأوسكار المقبل. هنا لقاء أجريناه مع بيكير:
في البداية، لنتكلم قليلاً عن الصوت في السينما، أكثرية صنّاع الأفلام في الدول العربية وحتى في أوروبا وأميركا لا يعطون للصوت وما يمكن أن يضيفه أهمية كبيرة، ما رأيك؟
ـ هناك اعتقاد خاطئ شاع في السنوات العشرين الماضية بأنّ الصوت مكلف، لكن الواقع أنها مسألة ثقافية؛ فالذين لم يتمكنوا من الوصول إلى التقنيات الصوتية المستخدمة لم يطوروا أدواتهم الخاصة. ولكن في كل مرة أعمل فيها مع صناع أفلام عرب، نعمل بطريقة جيدة ويكونون منفتحين جداً حول كيفية العمل. اليوم أصبح الحصول على الأدوات الصحيحة للعمل مع الصوت أقل كلفة. في فرنسا، لدينا المشكلة نفسها مع ثقافة «فيلم المؤلف». كل شيء عندهم مرتبط بالكتابة والقليل منهم يعطي أهمية للصوت، فغالباً ما يعتبر تفصيلاً ثانوياً يستعمل للزينة. يهتمون بالصوت فقط إن كان فيلماً تاريخياً أو موسيقياً. من وجهة نظري، هي مشكلة إنتاج في الدرجة الأولى حيث يتوافر المال بسهولة من «المركز الوطني للسينما والصور المتحركة» (CNC) فلا يهتمون ببذل جهد والتفكير في النموذج الأولي للفيلم أو في كيفية صنع الفيلم مع الصوت. لا يفكرون في عملية التوازن في الصناعة السينمائية، يفكرون بالطريقة نفسها سواء كان الفيلم يكلف ثلاثة ملايين دولار أو مليوناً واحداً. ستة أسابيع لتصميم ومونتاج الصوت وأسبوعان للمزج. حتى في الولايات المتحدة أو في إنكلترا، يكون الأمر مشابهاً، ولكن بالطبع بعض المنتجين والمخرجين يفهمون تحدي الصوت وهم منفتحون على التغيير. بشكل عام، صناع الأفلام المستقلة أكثر انفتاحاً من حيث عملية الصوت.
خلق المخرج داريوس ماردير ومصمّم الصوت نيكولا بيكير تجربة سينمائية حسية تعتمد على الصوت وتعابير العيون والإيماءات ولغة الجسد


قبل الحديث عن الصوت في «صوت الحديد»، لنتكلم عن الصمت، كيف تمكنت من خلق هذا الصمت الصارخ؟
ــ إنها مسألة ديناميكية. المشهد الأول للفيلم مجنون، صوته عال وقوي جداً. أنشأ هذا المشهد نوعاً من المقدمة في المستوى العام للفيلم، ما مهّد لخلق شعوراً بالصمت من بعده. تماماً كأنك تضرب يدك بمطرقة مراراً وتكراراً، ثم تتوقف فجأة، فتشعر بارتياح كبير مفاجئ.

هل كانت طريقة استخدام الصوت ودوره مكتوبة في السيناريو؟
ــ المثير أنني التقيت بالمخرج قبل عام من التصوير، وقضينا أسبوعاً نتحدث عن جوانب مختلفة من الصوت في الفيلم. ثم عقدنا بعد ستة أشهر لقاء مع مدير التصوير لمحاولة إنشاء وجهة نظر سمعية ووجهة نظر مرئية. المخرج موسيقي وكاتب رائع، عملنا بشكل وثيق جداً، كنت في موقع التصوير، وكان المنتج مذهلاً يدفعنا للقيام بتجارب في الصوت. إن لم يكن لديك الكثير من المال وتريد أن تخرج بصوت جيد؛ فلا بد لمصمم الصوت والمنتج والمخرج ومدير التصوير والممثل من التعاون معاً.

هل كان روبن (ريز أحمد) في الفيلم يسمع ما نسمعه قبل إجراء العملية وبعدها؟ وكيف أمكنك محاكاة تجربة فقدان السمع وما يسمعه بالتحديد الذي يبدأ بفقدان سمعه؟
ـــ قمنا باختراع سدادة للأذن حيث تمكنا من إرسال كمية من الضوضاء في أذن ريز أحمد لمحاكاة فقدان السمع. كان الأمر مثيراً جداً لأنه بطريقة ما عندما تواجه شيئاً من خلال جسدك، فإنك تتفاعل معه. لم تعد الأمور فكرية، ولكنها تحولت لتكون مكتوبة على جسدك وذاكرتك. حتى لو أن ريز أحمد لم يستعمل سدادة الأذن طوال الوقت، فقد اختبرها. العمل الكبير كان من قبل الممثل، إذا لم يكن لديك أداء مذهل، فلا يمكنك فعل ذلك. كنا قادرين على القيام بذلك بفضل ريز. قضى ريز أحمد الكثير من الوقت في مجتمع صمّ حقيقي، ما تعلمه وما نتعلمه من هذا المجتمع هو الانتباه. من خلال ذلك، استطاع واستطعنا الحصول على ما يركز عليه وما يشعر به، وأين يبحث أفي داخله أم في الخارج. وإن كان يحاول الحصول على معلومات من الخارج أم أنه يفكر فقط. حاولت أن أتتبع ذلك، ولهذا كل شيء بدأ طبيعياً في الفيلم. قرأت أخيراً كتاباً بعنوان «السينما الداخلية» لطبيب أعصاب اسمه ليونيل نقاش. يقول الكاتب إننا نحن الممثلون الرئيسيون لحياتنا. ومن خلال التفكير المعرفي، نحن نكون المخرجين الرئيسيين. الفيلم مبنيّ على وجهة نظر روبن (ريز أحمد) ومشابه جداً لما نختبره في الحياة الواقعية. لذلك، يمكن للجمهور إنشاء رابط قوي معه، خاصة عندما يصبح أصمّ. عندما كنت مع ريز، قضيت الكثير من الوقت في تسجيل صوته الداخلي باستخدام ميكروفونات محددة يمكنك وضعها على الجسد. لذلك ما نسمعه في الواقع معظم الوقت هو صوت ريز أحمد الداخلي... صوت الأنسجة والعظام.

بالنسبة إليك شخصياً، كمصمّم صوت عملت مع الكثير من المخرجين أمثال رومان بولانسكي، داني بويل، غاسبار نويه وغيرهم وفي الكثير من الأفلام المهمة مثل «جاذبية» لالفونسو كوارون، و«القادم» لدوني فيلنوف، و«أكس ماشينا» وغيرها، بماذا يختلف هذا الفيلم عن غيره؟
ـــ قليلة هي الأفلام التي سمح لي فيها المخرج والمنتج بفعل ما أريد. إنني سعيد بكل ما فعلته، ولكن ما أريده حقاً هو السماح لي بالتجربة والعمل كما أريد.

نيكولا بيكير في موقع التصوير

ماذا عن مستقبل الصوت في السينما؟ هناك علامة استفهام كبيرة، بسبب كل ما يجري على الكوكب. ولكن ماذا عن الصوت، ألا ترى أن هناك اليوم ثورة في مفهوم الصوت في السينما؟
ــ نعم، في التسعينيات وبداية الألفية، سادت الموسيقى التصويرية الصاخبة للغاية إلى درجة أنك تنظر إلى الفيلم كما لو أنك بعيد عنه. شعر الناس اليوم أنهم ذهبوا بعيداً جداً وأنهم يريدون العودة إلى شيء أكثر إنسانيةً. ومع تطور الموسيقى، أصبح كثيرون يستمعون إلى موسيقى تحوي الكثير من التسجيلات، المؤثرات الخاصة، الآلات الصوتية... وهي موسيقى أكثر انفتاحاً. وأعتقد أن السينما دائماً ما تتأخر عشر سنوات، إذا ما قارناها بالموسيقى. السينما أكثر تحفظاً بطريقة ما. لذا أعتقد أن الوقت قد حان لاختراق عالم السينما فعلياً، وهو تحدٍّ قد نجح المخرجون الجدد ومصممو الصوت الشباب في تجاوزه، فهم أكثر تعاوناً وقدرة على تمييع فكرة التسلسل الهرمي، مع تلاشي الاستبداد من قبل المخرج والمنتج.

هناك خلاف نقدي وجماهيري حول نهاية الفيلم. بعضهم يقول بأن الفيلم كان يجب أن ينتهي في الحفلة، وليس كما انتهى فعلياً في الشارع.
ـــ روبن (ريز أحمد) لا يمثل كل مجتمع الصمّ، ولا يمثل مجتمع غير الصمّ أيضاً. إن كان هذا ما يعتقده المتفرجون، فهم لم يفهموا موضوع الفيلم الذي يتعلق بالمرونة والقدرة على النمو. الفيلم لا يرتبط فقط بحقيقة أنك أصمّ أم لا. الصُّم ينشئون مجتمعاً خاصاً وكما يقول جو (بول راكي) في الفيلم، فإن فقدان السمع، شيء لا يجب إصلاحه، وهي الفكرة التي كنت سأتوصل إليها لو كنت مكان روبن. أعتقد أن هذا إنساني جداً وهو سبب إعجاب الناس بالفيلم. روبن ليس بطلاً خارقاً، ولا شخصاً سيئاً. إنه إنسان هشّ يحاول القيام بأشياء من أجل نفسه وحياته. أنت لبناني، لذلك ستفهم ما أقوله، ولأن العيش في لبنان دائماً على حافة الهاوية... أتعرف، أطفالي ربعهم لبنانيون وزوجتي نصف لبنانية، لذلك أنا مرتبط بلبنان. أتيت كثيراً من أجل «مواهب بيروت».

في النهاية، هل كتبت ما ستقوله عند تسلّم جائزة الأوسكار؟
ــ لا ليس بعد. أعتقد أنني سأوجه أولاً الشكر إلى فريقي، وليس فريق الصوت فقط، بل إلى كل من عمل في الفيلم. وأريد أن أقول إنّ العمل في الصوت ليس مسألة مال، بل إرادة. بعض الأشخاص عندما يكتبون السيناريو، يكتبون فقط حوارات وبعضهم يصفون الصور والأزياء والمزاج والموسيقى والصوت. إن نظام تمويل السينما خلق ارتباكاً، لأنه فقط انحصر بالصورة والحوارات. ولكن منذ بداية الثلاثينيات، أصبح صنّاع السينما يكتبون الصوت، وبدأوا بالتساؤل عنه، لذا هذا ليس شيئاً جديداً. من المهم حقاً أن يكون الناس منفتحين بشأن ذلك. أن تصنع سينما أكثر تعقيداً؛ فأنت تجعلها مغامرة أكثر لأن الحياة معقّدة وأصيلة للغاية، وإذا بدأت في إنشاء فيلم يتمتع بهذه القدرة، فيمكنك حقاً إنشاء سينما بكل ما في الحياة من معنى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا