جهاد الزين، القريب منّي البعيد عنّي، الصديق منذ نهاية السبعينيات، في سكنه يومذاك في الساقية الملحقة بالجنزير، عنده مع رغدا النحّاس الدمشقية، آنسُ برفع بناته الثلاث إلى أعلى، من باب الودّ والوفاء، وهنّ خفاف، وأنا في ميعة الشباب مزهوّاً باقترابي من الثلاثين، أو عند ميّ حريق ورفيق دربها عمر مكّي، على عشاء وندوة فكر، ناحية حيّ كليمنصو، مع أحمد بيضون وهيثم الأمين وصفيّة سعادة ابنة الزعيم الخالد الذكر في دنيا الهلال الخصيب الواسع والمعطاء، وعزّة شرارة بيضون، وغسّان مطر، وطلال الحسيني وطلال حيدر، ونقاش في العقيدة الجانحة إلى اليسار، فيما معارك حرب الفنادق يصل أزيزها حتى مجلسنا ورصاص طائش يُسمع ارتطامه بجدران حولنا، فينهض طلال حيدر بشدوٍ بقاعي ويؤازره طلال الحسيني بهزج بعلبكي.
يخصّ جهاد الزين كتاب «الأمير الصغير» بفصل ثريّ

ثم يرقصان فلا أجمل من تناغمهما، وكان الحسيني ذلك الزمان يسطّر على صفحة جريدة «النهار» مقالات جمعها لاحقاً تحت عنوان الأوهام والأمور والأشياء، وهي هجوم مكثّف على مثقّفي بيروت آنذاك. وها هو جهاد الزين بعد قرابة خمسة وأربعين عاماً انقضت على ذلك الزمان الواعد الجميل يعود إلينا بسِفر يؤرّخ حنينه إلى الكتب وورقها في «أغاني مومياء معاصرة: قصائد ومذكّرات» (دار نلسن، 2021)، فها هو يمهّد للأسمى: «لا يكفي نفض الغبار عن الزمن القديم لاستعادته. يكفي أن تمسك كتاباً قديماً وتمسحه بيدك قليلاً كي يظهر الزمن القديم. لن يظهر سوى الحنين».
هذا الغرام بالكتب لا غرابة فيه، فعن جدّه الشيخ علي الزين «عميد عصبة الأدب العاملي» ورث مكتبة ذات رفوف بقطوف دانية. وعن جدّ رغدا أحمد عارف الزين صاحب العرفان نزل عليه تنوير وعناد وأحياناً نمردة، إلى حدّ أنه مُولعٌ باصفرار ورق الكتب القديمة: «ذلك الاصفرار على بعض صفحاتها وذلك اللون الذي لا يشبهه لون الذي ينبعث من أغلفتها الجلدية، فلا الأسود أسود ولا النبيذي نبيذي ولا الرمادي رمادي، ألوان مكتملة لا يمكن إلا أن تشبه نفسها».
ورفّ الكتب عند جهاد الزين رغم ضيقه أوسع مكان في الدنيا وأكثر حريّة، فلا عجب أن يرفع كتابه إلى جدّه عميد عصبة الأدب العاملي، ولا غرو أنه حتى من باب الغرام لدى تشبيبه بجارته سارة وهي في الثامنة عشرة وهو يكبرها بعام، فإذا هو يعترف وكتابه هنا يندرج تحت خانة الاعترافات: «لم أُخرج سارة من كتاب. لكني سأحتفظ بها ذات يوم في كتاب. إنها ليست قصّة غرام بل قصّة ودّ من زمن مراهق. قصّة نضج مبكر ذات صيف».
عن جدّه الشيخ علي الزين «عميد عصبة الأدب العاملي» ورث مكتبة ذات رفوف بقطوف دانية


ثم إنّ كاتبنا يخصّ كتاب «الأمير الصغير» الذائع الصيت (ولمن شاء قراءته بالعربية فعليه بتعريب يوسف غصوب)، بفصل ثريّ، إذ أنه مفتاح صلته بالكتاب وبالفرنسية لغةً، إذ ألحّت معلّمته وهو في الرابع الابتدائي على صواب فعل apprivoiser، أي «روّض» بالعربية، وبالتالي، هذّب النفس، فلا صداقة دون ترويض وتهذيب، وهذا ما علق في ذهنه حتى الساعة منذ كان في السادسة، وهو اليوم في سنّي، طال عمره حيث هو اليوم ناحية القلب في كليمنصو، عودٌ على بدء.
ويرتدّ جهاد الزين إلى الشعر وهو من حفظته، فيعارض قصيدة جدّه بعد مرور قرن عليها، وزناً وقافية، ومنها:
«ذلك القصيد حملتُه قدَراً
وجعلتُ من أبياته نسبي
هلّا أذنتَ وقد مضت حِقبٌ
لأردّ نحوك لهفة الحِقبِ»
وكان جدّه عبد الكريم الزين، والد جدّه الشيخ علي الزين نشر قصيدته في العرفان، ومطلعها:
«شيمي لحاظك ربّة الحُجُبِ
لا تذهبي بدمي ولا نشبي»
فإن كان هذا جدّه فلا عتب عليه إن مال غرامه وجنح إلى إرث العامليين من مجد تليد في نقش الهوى على قرطاس الفؤاد، والعودة إلى سفره الجديد ضرب من رصد شمس الأصيل في حمرة توهّجها ناحية منارة بيروت.

* كاتب فلسطيني




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا