على الرغم من أن المخرج علي العلي، كان محاصراً في بيروت وسط أزمة كورونا ولاحقا عالقاً بين ارتدادات انفجار مرفأ بيروت، وقبلها وبعدها وبينها معضلة بيروت السياسية والاقتصادية، على الرغم من كل ذلك، فإنه نجح في أن يخلق لنا صورة جميلة لبيروت تبعث أملاً وتذكّرنا بجمال هذه المدينة الاستثنائية في مسلسل «دفعة بيروت» (تأليف هبة مشاري حمادة ــ شاهد. نت).كادر الصورة أخّاذ، حتى إنك تحب أن تبقى فيه، ينقلك إلى عالم الستينيات وميلاد أحلام جيل عربي في حراك سياسي وفكري يؤمن بالتغيير على جبهات فكرية متعدّدة، وتطلعات شباب يرون الحياة في صور مختلفة، يأخذون حظهم من المتعة والغرام والحب.
لديّ مجموعة ملحوظات على كتابة سيناريو المسلسل، أتمنى ألا تأخذ على محامل التصعيد والاستهداف، فالكاتبة هبة مشاري، لها حضورها المميز وأعمالها الجماهيرية.
عنوان القصة جميل «دفعة بيروت»، وقبلها كانت «دفعة القاهرة» لكن تجميع الدفعة في سكن واحد، جعلهم أقرب إلى شلة، يعيشون في مكان واحد ويرتادون جامعة واحدة، ويكاد يكونون في صف واحد كما في دفعة القاهرة أو صفين اثنين فقط، والأنشطة خارج الصف أيضاً مشتركة بينهم. الأكثر من ذلك أنّ مشاكلهم تُناقش كدفعة واحدة بشكل جماعي، ويتصرفون كأنهم على قلب واحد، وكلهم أبطال تقريباً لا يمكن الاستغناء عن أي شخصية منهم طوال ثلاثين حلقة، حتى أصبح هناك عقد ضمني مع المشاهد يطمئنه على أنك لن تفقد أي شخص من طاقم الدفعة، كلهم سيبقون حتى نهاية المسلسل.
شخصيات الدفعة تعيش كلها أزمات عاطفية، ليس هناك شخص شغلته السياسة والأفكار بشكل جدّي حتى عصفت بمصير حياته، ما يعصف بهم هو الحب ولا شيء آخر، حتى مشاهد الحرب التي شاهدناها في «دفعة القاهرة»، لا تشعر بجديتها في مصائر الشخصيات، كلهم بقوا أحياء يُرزقون وأكملوا قصص حبهم. قصص الحب الكثيرة أثقلت المسلسل، وبدل أن نتابع قصص الشخصيات وأحلامها الفكرية في سياق درامي، صرنا نتابع قصص الحب الكثيرة، حتى إنك تشعر أحياناً بخجل في متابعة القصة، كأنها مكتوبة لجمهور من المراهقين والمغرمين بقصص الحب، ولا علاقة لها بالتاريخ الذي عاشه جيل الخمسينيات والستينيات ممن أثروا في حراك مجتمعاتهم في الخليج وشكّلوا الصفوة وتبوّؤوا مراكز قيادية في المعارضات والأحزاب والدول.
أظن أن الاعتماد على صيغة المجموعة المتكاتفة التي تعيش الأجواء نفسها وتتعاضد في ما بينها، ومهما حدث من خلافات تعود إلى الانسجام نفسه، أضعف حبكة السيناريو، حتى صرنا نعرف سلفاً أن كل خلاف بعد لحظات سيتحول إلى انسجام ومحبة وأخوّة وحياة جميلة تجسّد فكرة زمن الطيبين.
هناك مشاهد مكتوبة بشكل رائع ومخرجة في صورة أخّاذة، لكن مع الأسف تأتي سريعاً وتختفي من المسلسل سريعاً، ولا تخلق توقّعاً عند المشاهد لأنّ السيناريو محبوك على إيقاعها. يمكن أن أستحضر من المشاهد: قلم الرصاص وتوظيفه في قصة الحب بين «شاهة» فاطمة الصفي والممثل العراقي ذو الفقار خضر في دور «كريم»، وكذلك مشهد استحضار ذاكرة الاعتداء الجنسي في الطفولة على شاهة وحساسيّتها من لمس جسدها من قبل أي رجل، وهنا لا بد من أن أشيد بقدرة فاطمة على تمثيل الانفعالات، لكن مشاهد انفعالها صارت مكرّرة ومحفوظة حتى كأنها تمثل شخصية واحدة. على العكس من ذلك فإنّ حمد أشكناني في دور مبارك الذي يعاني من مرض التوحد، قدّم بناء شخصية رائعة جداً. تشعر أنه فنان فعلاً يتحدى نفسه ويتحدى المشاهد، لا يمكن أن تصدق أنه نفسه في دور الأعمى في «دفعة القاهرة». من المشاهد الرائعة أيضاً مشهد مخدّات النوم وحكاياتها في افتتاحية إحدى الحلقات، كان مذهلاً، ومشهد ناعسة وهي تكتشف قصة حرق أهلها عبر القصاصة المكتوبة، فقد أبدعت هبة في كتابته وأبدع العلي في إخراجه وأبدعت روان الصايغ في تمثيله.
قصة الإخوان المسلمين مُقحمة في السيناريو، وواضح أن الكتابة والمعالجة هدفهما شيطنة تيار سياسي يعيش خلافاً سياسياً معاصراً مع أنظمة سياسية معيّنة. مع ذلك لا بدّ من القول إن شخصية الفنان علي كاكولي التي جسّدت الدور كانت خفيفة ظل وجميلة، والممثل متمكن من أداء دوره أعطى نكهةً محببةً خفّفت من حرج متابعة قصص الحب الفائضة.
أقول إن قصة الإخوان مقحمة، ليس لأنها شيطنتهم فقط، بل لأن المسلسل حقيقة لا يُبرز سياق الأحداث السياسية الكبرى في ذلك الوقت، وأنا هنا لا أعني الإشارات الخجولة المنزوعة الدسم. لا يكاد يكون هناك طالب خليجي أو عربي في ذلك الوقت ما تأثر بهذه الأحداث وانخرط فيها بقوة.
تقول كاتبة السيناريو هبة: «التعايش هو الفكرة الأساسية التي نريد تسويقها في العمل، وأن الآخر هو شريك في الأرض واللغة والهواء والماء والمحتوى الثقافي». هل كانت هذه الحقبة مهمومة بفكرة التعايش؟
ما كانت هذه الحقبة مهمومة بفكرة التعايش، هذه فترة تاريخ تحرّر وأفكار ثورية، لا يصلح أن نسقط عليها أفكاراً معاصرة ورغبات لاحقة، ومشهد الزوج المسلم والزوجة المسيحية في الجبل، لا يعبّر عن الانقسام اللبناني الحاد الذي قاد إلى الحرب الأهلية في السبعينيات، لذلك لا تجده متصلاً ومتسقاً مع حبكة السيناريو، ولو حذفه المخرج لن تحدث فجوة، هو في حقيقته يعبر عن فكرة تريد الكاتبة أن تسوّقها كما قالت، لكن لا يمكنك أن تسوّق في التاريخ ما لا يحتمله وعي وهموم الناس في تلك الحقبة.

* كاتب من البحرين

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا