لعل الرواية تمثل إحدى المقاربات الفلسفية التي يحاول الكاتب من خلالها أن يتفاوض والراهن عبر طرح تساؤلات، من دون الحاجة بالضرورة إلى تقديم إجابات لها، بل ربما يلجأ عبر الكتابة إلى إعادة تقديم نظرته للوجود الإنساني وماهيته وكذلك طرح الاستفهامات المتعلقة بحياة الإنسان ورؤيته للمحيط من حوله سلباً أو إيجاباً، خاصة إذا كانت هذه الطروحات تكتسي ثوباً فلسفيا يتطرق إلى مختلف المواضيع في إطار أدبي. ولعل من يقرأ روايات الكاتب الجزائري إبراهيم سعدي، يدرك تماماً بناء الرواية الفلسفية شكلاً ومضموناً، حيث يتزاوج السرد والفلسفة في حاضنة ممشوقة القوام بلغة أدبية عالية المبنى والمعنى ذات دلالات ومحمولات فكرية متعددة. الأكيد أن مراجعة أعمال إبراهيم سعدي الروائية تمثل جرعة فلسفية عميقة تتطلب من القارئ أن يأتي متسلحاً لها، فهو يطرح فكرة الوجود من دون أن ينحاز عن القالب الروائي. إذ يسرد في عمله الروائي الأحدث «فيلا الفصول الأربعة» الصادرة عن «منشورات الاختلاف/ضفاف» ( 2019) قصة أحمد يطو، وصديقه الهادي الذي أراد أن يزوره للمرة الأخيرة، وبالفعل تواطأ القدر مع ما يريد لتكون الأخيرة. إذ عثر عليه مقتولاً، من دون أن يشرح لنا الكاتب كيف أو لماذا قتل! فهو بهذا منح للقارئ حرية التساؤل.
إتصل الهادي بكل أقرباء الضحية، لكن لم يرد أي منهم القدوم. لذا أمضى الليل بأسره لوحده مع الجثة، هذا ما جعل تلك الليلة تبدو طويلة جداً في نظر الهادي الذي راح يسترجع كل ذكرياته وصديقه أحمد ياطو الذي كان وزيراً سابقاً (وجد أن اسمه حذف من حكومة صاحب القصر الجديدة).
في تلك الليلة بالذات، يروي لنا الكاتب ما حدث للهادي مع الجثة وكيف جعلته يتذكر كل ما مر عليهما هو وياطو في جلسة جلد للذات، وهنا بالتحديد يبرز استخدم الروائي للفلسفة بشكل مكثف. سيلحظ القارئ ذلك حال اطلاعه على الرواية التي تطرق الكاتب من خلالها إلى فكرة الوجود وماهيته وجدوى الحياة وانجاب الأولاد الذي رآه جريمة في حق من سيأتون لهذه الحياة كي يموتوا... بعدها، أحال القارئ إلى أمر آخر عندما كسر درج مكتبة ياطو بهدف الاطلاع على أسراره ومعرفة ما كان يكتب عنه على وجه الخصوص.
يحاول أن يقول الكاتب إن إشكالية الإنسان الحقة هي نفسه التي يحاول بشتى الطرق أن يجد لها تفاسير من خلال الآخرين، فاكتشافهم هو بمثابة اكتشاف حقيقي لنفسه.
يقول في الصفحة 25: «لم أحاول أبدا التدخل في المعتقدات الميتافيزيقية للناس. لهم دينهم ولي دين لقد فكرت دائمًا بأن كل إنسان حر في اختيار عالمه الروحي الخاص به حتى يمكنه تحمل عبء وجوده في هذا الكون .كل هذه الأمور أقولها في الحقيقة لأول مرة في حياتي».
الإنسان من وجهة نظره دائم السعي لاكتشاف الحقيقة التي تتعدد بتعدد أوجهها وتعدد الواقع والمتغيرات التي تطرأ على الانسان وأفكاره التي يمكن في أي لحظة أن تعكس مسارها لتتخذ منحى آخر يكون وليد تلك اللحظة لكنه يسفر عن الكثير من الانعطافات التي ستشكل بعدها حياته ونظرته لكل شيء. كما أنه في روايته يتجاوز الحياة وملذاتها وملهاتها ليتناول الموت الذي يشكل أحد أهم الهواجس التي اتخذت من «فيلا الفصول الأربعة» ثيمة رئيسة لها. فهو يرى فكرة الموت حية في الحياة وتكاد تكون الحياة امتداداً شديد الصلة بالموت، ولا يمكن التفكير بأحدهما بمنأى عن الآخر.
كسرت الرواية جدار الأدب لتذهب بعيداً في تحليل النفس البشرية وإرهاصاتها وتقلباتها من الداخل، وهذا ما نجح فيه من وجهة نظري الروائي إبراهيم سعدي عن جدارة، فصعب جداً أن تكتب الرواية وفي نفسك شيء من الفلسفة، التي تظهر ملامحها جلياً وبشكل طاغ على النص.
إبراهيم سعدي روائي حقيقي يكتب فلسفته في الحياة، فالذي يقرأ أعماله يوقن أن هذا الكاتب وُلد كبيراً، منذ أول نص له، ويدرك كذلك كيف تولد النصوص التي دائماً ما تبهجنا، تلك النصوص التي نتعلم منها وإبراهيم سعدي يعلمك وأنت تقرأ له، تغرف من بحر علمه وتجربته وفلسفته، لا يثرثر ولا يحشو نصوصه ولا يبدد الكلام، ولكنه يملك رصيداً كبيراً من الأفكار وميزته أنه صادق حين يكتب، لا يرائي ولا يكتب لغاية، يكتب لأجل تحريك شيء ما في هذا الفراغ الرهيب. لا يكتب للفت الانتباه، فالمتعافي مع ذاته لا يفعل، لا يكتب للشهرة منشغل بأسئلة أرقى وأهم، لا يكتب للجوائز (نضاله حياة وحياته نضال، كاتب تقول كتابته مواقفه وتقول مواقفه في الحياة كتابته).
كما أنه منشغل بالكتابة في الوقت الذي صنع زيف العالم الافتراضي أسماء أدبية من دون أدب، وروايات يقال إنّها ناجحة بدون قراء. إبراهيم سعدي سيظل يكتب ما دام هناك متسع للكتابة لأنه مؤمن بجدوى أن نكتب ما دمنا قادرين على فعل ذلك، وقادرين على قول ما يمكن التعبير عنه كتابة. مؤمن أن هناك قارئاً سيحفل بكتاباته، فالأدب الجيد لا يموت بموت القارئ الحالي.
نشير هنا إلى أنّ إبراهيم سعدي أستاذ فلسفة في جامعة تيزي وزو في الجزائر، وفي رصيده العديد من الأعمال الأدبية منها رواية «الأعظم»، «آدميون»، «كتاب الأسرار»، «بوح الرجل القادم من الظلام» و«بحثاً عن أمال الغبريني».