«ماما.. شو يعني لولب؟!»لم أكن قد تجاوزت السادسة من عمري حين سألتها هذا السؤال. كنت دائماً أسمعها تقول بصوتها الدافئ: «جانو إجت ع اللّولب، كنت حاطة لولب والله طعمني ياها» لتعود وتكمل القصة لصديقاتها النسوة في جمعاتهن. معظمهن من قريتنا الخيام في الجنوب، تهجرن مع عائلاتهن إبان الاحتلال الإسرائيلي إلى البقاع أو بيروت، ومن ثم سافرن مثل أمي وعائلتي إلى الكويت. خلال هذه الجمعات، وحين تجيء أمي وأنا بصحبتها، تبدأ النسوة بالتساؤل والاستفسار. لا أذكر أسماءهن أو أشكالهن، ولكن أذكر جيداً علامات التعجب والاستغراب في نبرة صوتهن وهن يوجهن أسئلتهن باللّكنة الخيامية التي اعتدت أن أسمعها من أمي:
- أيمتا زوجتيه لبسام؟! مش بنت بسام هالبنت؟!
بسام هو أخي البكر، يكبرني بأكثر من ثلاثين سنة، عيناه زرقاوان كالبحر، أنفه رفيع ومروّس، أما شعره فعبارة عن كمشة صغيرة على كل جانب من رأسه وخصلة طويلة تمتد من الشمال إلى اليمين لتغطي الصلعة في الوسط.
كانت أمي، وحين تُسأل هذا السؤال، تنظر إليّ وفي عينيها العسليتين كل نظرات الفرح وتقول لهن وهي ترفع ذقنها ورأسها تعبيراً عن مدى فخرها وسرورها:
- لأ .. هيدي بنتي! ليش كتير كبرنا يعني؟! كلهن ٤٩ سنة
لا شعورياً، كنت ارفع ذقني ورأسي أنا أيضاً مثل أمي، وأنظر إليهن بنظرة النصر ذاتها، إنما لأسبابٍ مختلفة تماماً. كنت أقول لهن بنظراتي أنني صحيح أشبه أخي بسام بملامحي الشقراء، إنما عينايا خضراوان كورق الشجر مثل عيني أبي وأنفي أفطس مثل أنف أمي، أما رأسي فمليء بالشعر الذي يشبه «الخواتم» كما تقول أمي.
كنت أخبرهن بنظراتي أنني «بنت أمي، بنت إم بسام»، لتعود وتُكمل وهي تُؤكد لهن أنها وحتى الشهر الخامس من حملها، لم تكن تعرف أنها حامل اصلاً، وأن دورتها الشهرية كانت منتظمة إنما قصيرة ولمدة يومين فقط، وأنها وبعد أن حملت لأكثر من عشر مرات وولدت لست مرات كانت متأكدة أن الحركة التي تشعر بها في بطنها هي حركة طفل.
«في ولد ببطني! يا عمي شو أني ما بعرف حركة الولد بالبطن! وروح لعند هالحكيم المصري وشو يقللي؟ دي بوادر القطيعة يا مدام.. قال شو! بدا تقطعني عل اربع واربعين، قطيعة اللي تقطعوا تقول وهي تهز برأسها وتزم شفتيها. لحد ما أخدت موعد بالمستشفى لبريطاني وبقسم الحوامل، لحتى يقبلوا يعملولي سونار، وهونيك تأكدت.
في ذاك الوقت، لم أكن أفهم كلمة واحدة من هذا الحوار كله، ولكن كنت أحفظه عن ظهر قلب. عند كل صباح، وحين أستيقظ لأجدها قد حضرت قهوتها الصباحية المرة بالهال كعادتها، تسكب القليل في فنجانٍ وضعته على الصينية خصيصاً لأجلي، ومن ثم تسكب نصف فنجانها. لأمي عادة خاصة في شرب القهوة، إذ كانت تشرب ركوة كاملة كل صباح، إنما لم تشرب يوماً فنجاناً مملوءاً بالكامل، دائماً نصف فنجان!
- قال أنا إم بسام. أقول لها بشعري المنكوش وأنا أمسك فنجان القهوة الخاص بي وأضع رجلاً على رجل إستعداداً لتبادل الأدوار.
- أهلاً أهلاً جارتنا، تفضلي ع الصبحية، إيه شو بتخبرينا؟ كيف ولادك؟". تسألني وهي تنظر إلي بنظراتٍ مليئة بكل الحب الموجود في هذا العالم. أشرب قليلاً من فنجاني لأرد عليها وأنا أُقلد طريقة كلامها ولكنتها الخيامية:
- ولادي بلبنان، عم يدرسوا مهندسين بالجامعة، معش في هون إلا أنا وبو بسام وبناتي هند وجانو
- يي هيدي بنتك؟ تسألني باستغراب مقلدةً استغراب صديقاتها.
- إيه بنتي، جبتها ع اللولب. وقبل أن نكمل لعبتنا سألتها: ماما.. شو يعني لولب؟
إلتفتت ناحيتي، إبتسمت، ورتبت لي شعري بيديها السمراوين وهي تقول:
- لولب يعني دوا بتاخدو الوحدة لحتى ما تعود تجيب ولاد
- وليه ما بدا تجيب ولاد؟!. سألتها مستفسرة وأنا ما زلت أحمل فنجان القهوة بيدي.
- لأنو بيكون صار عندا كتير. أجابت بسرعة.
نظرت إليها بتعجب وأنا أقول: وإنتي ما كان بدك ولاد عشان صار عندك كتير؟!
- أنا ما كنت عارفة إنو إنتي اللي رح تجي!. أجابت وهي تبتسم وتشرب القليل من قهوتها.
- وليه ما جبتيني أنا أول وحدة؟! قلت بغضب .
- ضليت عيطلك وعيطلك وقلك يا جانو يلا تعي وإنتي تقوليلي لأ مش هلأ، لأ مش هلأ وبعدين عملتيلي مفاجأة
قاطعتها بحماس: يعني نبسطي فيني؟!
أخذت فنجان القهوة من يدي ومن ثم حملتني لتضعني في حرجها. ضمتني.. قبّلتني.. شمتني وقالت لي:
- هني وعم بيشيلوكي من بطني، وأول ما قاللي الحكيم إنك طلعتي بنت، علّيت راسي، وبس شفتك أديش حلوة وكيف كنتي عم تضوي، قلت بنت بنت.. وشو عليه إزا بنت هيك
لم تكن أمي تحب بشارة البنات، دائماً ما كنت أسمعها تقول «لو يهودي بإسرائيل جاب بنت، أنا بالخيام بزعل، مش بإيدي! وأصلاً ربنا دخيل إسمو بالقرآن بيقول وإني وضعتها أنثى وليش الذكر كالأنثى».
مع الوقت، اكتشفت أنني أشبه أمي كثيراً، أقلدها فيما تحب وتكره، أستخدم أسلوبها في الانزعاج، عباراتها التي كانت ترددها دوماً، حتى تصرفاتها التي كنت أنتقدها يوماً، أجد نفسي غارقة بها.
كنت مدركة لفارق العمر بيني وبين أمي، ربما ليس فارق العمر بيننا، إنما فارق العمر بينها وبين أمهات أصدقائي اللواتي كنت أراهن في المدرسة.
ذات يوم، قررت إدارة المدرسة أن تقيم احتفالاً في مناسبة عيد الأم عبارة عن نشاطاتٍ وألعاب بين التلامذة وأمهاتهن. في ذاك اليوم، عدت إلى البيت وقلت لها لحظة وصولي وهي تستقبلني بقبلاتها كعادتها، بقلق طفلة في السادسة من عمرها: في عنا حفلة بالمدرسة ورح نلعب مع بعض أنا وإنتي!
«إيه وليه زعلانة؟!» سألتني وهي تنزع حقيبتي المدرسية عن ظهري
«بدي ياكي تروحي مكشخة!!» أجبت بتصميم وسرعة
إبتسمت وفتحت عيناها باستغراب «وشو يعني مكشخة؟»
أمي كانت تعرف معنى هذه الكلمة جيداً، ولكنها سألتني لتتأكد ما إذا كنت أنا أيضاً أعرف معناها، وأقصد ما أقول فعلاً.
«يعني تلبسي حلو وتحطي كحلة وحمرة» قلت بخجل وأنا أتجنب النظر في عينيها.
وجاء يوم الاحتفال، وبينما كنا نرقص بشكل حلقة دائرية، كانت عيناي معلقتين بالبوابة السوداء الكبيرة للمدرسة، وفي اللحظة التي أطلت فيها أمي، أفلت يدي أصدقائي وركضت نحوها لأضمها وأنا أبكي. حين أحست أمي بدموعي، أبعدتني عنها وهي تمسحها وترتب شعري وتسألني مستفسرة: «ليش عم تبكي يا جانو؟»
أجبتها وقلبي يفيض حباً وفرحاً: «لأنك طالعة حلوة ومكشخة، أول مرة بشوفك حاطة كحلة وحمرة!»
لعبنا بكل الألعاب، وتنافسنا مع كل الأمهات، وربحنا..
في تلك الليلة، نمت في حضنها، أو قلبها كما كانت تقول، وأنا أبتسم وأقول في سري «إمي حلوة..حلوة وبتحط حمرة.. ومكشخة!»

* مقطع من رواية «لا مزيد من الماء لعينيّ» التي ستصدر عن «دار المجمّع الإبداعي» هذا العام.