من هو القارئ؟ سؤال يطرحه ريكاردو بيجيليا (1941 ــــ 2017) في كتابه «القارئ الأخير» الصادر عام 2005 (انتقل أخيراً إلى العربية عن «منشورات المتوسط» ـــ ترجمة أحمد عبد اللطيف)، ويجيب بأنّه «كائن منعزل، بعيدٌ عمّا هو واقعي». لكن هذه الإجابة مجرد عتبة لاستدعاء صور مختلفة للقارئ، التقطها من متون روائية وتخييلية وفوتوغرافية، كان القارئ فيها شخصية مؤثرة في الوقائع اللاحقة، وتالياً يعوّل على أهمية القراءة وإعادة إنتاجها على نحوٍ آخر بوصفها حياةً موازية. سوف يحضر مواطنه الأرجنتيني خورخي بورخيس أولاً، بوصفه قارئاً نموذجياً كشخص، وكشخصية روائية في آنٍ واحد: «إنه القارئ الأكثر إبداعاً وتعسّفاً وتخييلاً منذ دون كيخوته» يقول. قارئ تراجيدي تائه في مكتبة، يرتحل من كتاب إلى آخر، يقتفي أثر الأسماء والإشارات والمصادر والهوامش، على عكس القارئ لدى كافكا، ذلك الذي يجلس في غرفة ببيت عسكري، في ظلام الليل، ويقرأ أمام نافذة تطل على جسور براغ. لا خط أفقياً في اقتناص شخصية القارئ هنا. ثمة تجوال طليق يضع هاملت في مواجهة آنّا كارنينا، ومدام بوفاري مقابل دون كيخوته، في سيولة جمالية تنطوي على اكتشافات لافتة في سلوكيات هذه الشخصيات. يستعير عبارة من شكسبير «يدخل هاملت وهو يقرأ كتاباً». وحين يسأل بولينيوس هاملت ماذا يقرأ؟ يجيبه «كلمات كلمات كلمات». لا يكتفي ريكاردو بيجيليا بتثبيت اللقطة أو أرشفتها و الاكتفاء بها، إنما يتوغّل من السطح إلى العمق لفكّ شيفرة المعنى، محاولاً كشف الفضاء العام الذي يحيط شخصية القارئ وتموضعها بين الشخصيات الأخرى، والمسالك التي ترتادها كشخصية ثقافية في المقام الأول، تسعى إلى تشييد معنى مختلف لحركية النص المقروء. في إحدى قصص بورخيس، هناك من يبحث عن نصٍّ مفقود. إنه شخص قرأ هذا النص قبلاً، لكنه لم يعد يجده، فتتشكّل الفكرة حول ما هو غائب ومفقود، وإذا بالقارئ يعبر عتبة أخرى نحو واقع آخر متوالد ولا نهائي. وبهذا المعنى فإن القارئ هنا، ليس الذي يقرأ كتاباً، إنما «القارئ التائه في شبكة من العلامات». يحضر بورخيس ويتوارى في استدعاءات أخرى، نظراً إلى حمولته الثقيلة كقارئ، والأمر ذاته بالنسبة إلى كافكا، وهو ما يجعلنا نفكّر بريكاردو بيجيليا نفسه، وهو يتأمل مصائر الشخصيات التي يستلّها من بطون الكتب التي تفيد بحثه، ذاهباً بها إلى مناطق وحفريات مضادة تشبه جولة تعسفية في بعض طرق القراءة، وفقاً لعمل الذاكرة «إن حياتي الخاصة كقارئ حاضرة هنا ولذلك فهذا الكتاب هو أكثر الكتب الشخصية والأكثر حميمية التي كتبتها» يقول.وبناءً على هذه الاستراتيجية، سنحضر نحن كقرّاء لاحقين ومجهولين، ونتتبع هؤلاء القرّاء وقد اتخذوا هيئة مختلفة تتجاوز المشهدية العابرة التي اختزنّاها أثناء قراءاتنا المتعثّرة، أو أننا بالأساس لم نلتفت بما يكفي إلى عبارة ما في وصف أحوال قارئ كان يقرأ رواية. لطالما احتفظنا بمشهد انتحار آنّا كارنينا فوق سكة قطار باعتباره مشهداً مفصلياً في رواية تولستوي، فيما تبدّدت صورة آنّا كارنينا، وهي تقرأ رواية إنكليزية تحت ضوء كشّاف داخل عربة قطار (رحلة داخل رحلة). ويختلف الأمر بالنسبة إلى إيما بوفاري التي ستُمنع من قراءة الروايات، وبالطبع لن ننسى المصير الذي انتهى إليه دون كيخوته بسبب هوسه بقراءة روايات الفروسية ومغامراته في تقليد سلوكياتهم وقيمهم النبيلة.
في «عوليس» جيمس جويس، تنصهر القراءة بالتجربة إلى أقصى الأحاسيس بما فيها شكل الجسد


في مراسلات كافكا وفيليس باور، سنقع على حالة شغف بقراءة الآخر وتوريطه بالكتابة، رسالةً وراء رسالة، ما يعني «الافتتان والقراءة»، فالعاشقان ــ وفقاً لصاحب «الغزو» ــ يلتقيان في النص المقروء. يقرآن التجربة. القراءة تحتل المكان المركزي. وصورة القارئة، المرأة التي تنتظر، هي جوهر الحكاية. هكذا «شيّد كافكا خيالياً صورة قارئة مرتبطة بمخطوطاته. صورة سنتمنتالية تربط الكتابة بالحياة. المرأة الكاملة من منظور كافكا (وليس من منظوره وحده) ستكون حينئذ القارئة المخلصة، قارئة تعيش حياتها لتقرأ وتنسخ مخطوطات رجل يكتب». وفي تأويلٍ آخر، بإمكاننا القول: «إنه يكتب يومياته ليقرأ المعنى منزاحاً في مكان آخر».
هناك قارئ آخر من العيار الثقيل، يصعب تجاهل علاقته بالكتاب، إنه أرنستو تشي غيفارا. كان الثائر الأرجنتيني جريحاً مشرفاً على الموت، لكنه في تلك اللحظة، سيستنجد بطريقة موت قرأها في قصة «سريعاً ما فكّرتُ في أفضل طريقة أموت بها في تلك اللحظة وقد بدا أن كل شيء قد ضاع. تذكرتُ قصة قديمة لجاك لندن، حيث البطل المتكئ إلى جذع شجرة يستعد لإنهاء حياته بكرامة، عندما عرف أنه محكوم عليه بالإعدام مجمّداً في المناطق المثلجة بألاسكا. هذه الصورة الوحيدة التي تذكرتها». كما سيتمثّل مصير دون كيخوته في رسالة وداع موجهة إلى والديه: «مرة أخرى أشعر تحت كعبيّ بضلوع روثينانتانا، أعود إلى الطريق بدرعي على ذراعي». أرنستو مهووس قراءة، كان يحبس نفسه في الحمّام ليقرأ، وفي الاستراحات الطارئة أثناء المعارك، وإذا بحياته تتغذى من الكتب، مثلما ستكون التجربة وقوداً للكتابة «الحياة تكتمل بمعنى تمَّ استخلاصه من قراءة الروايات». وستعبر صورة غرامشي وهو يقرأ محبوساً في زنزانة. أما مارسيل بروست الذي كان ينام ويستيقظ وبجواره كتاب مستعيداً بهجة القراءة، فيقول: «ربما لم تتمتع طفولتنا بأيام معاشة بالكامل مثل تلك الأيام التي اعتقدنا فيها أننا لم نعشها، تلك التي قضيناها مع كتابنا المفضّل». وفي «عوليس» جيمس جويس، تنصهر القراءة بالتجربة إلى أقصى الأحاسيس بما فيها شكل الجسد. قرّاء متطرفون إلى درجة «الرغبة في أن تكون آخر، الرغبة في أن تكون أحد أبطال الروايات». بعنوان «القارئ الأخير» أيضاً، سنقع على رواية للمكسيكي دافيد توسكانا، عن أمين مكتبة يلتهم الكتب ويصوغها على نحوٍ آخر، في وحدته. على الضفة المقابلة، سنفتّش عبثاً عن صورة القارئ في الرواية العربية، لا أحد يقرأ في القطار، لا أحد يضع كتاباً إلى جانب السرير، لا مكتبة منزلية، لا كتاب مُنقذٌ من الهلاك، وفي أفضل الأحوال، هناك من يتخفّى وراء جريدة بصفة مخبر، وليس قارئاً!