كُلّيّة الطّبّ ليست صرحاً تعليميّاً عاديّاً، ولا شكّ أنّ الخوض فيها تجربة مُميّزة. ورغم ضخامة المادّة التّعليميّة والضّغط الشّديد لدوام العمل، إلّا أنّ ما يُميّز هذا الميدان هو أمرٌ آخر. قد تشعر أحيانًا بـ«صدمةٍ ثقافيّة» كما لو كان الطّبّ وممارسته مُجتمعاً آخر، له واقعه وأعرافه وثقافته الخاصّة الّتي عليك التّأقلم معها كما تأقلم آخرون من قبلك. على مشارف الانتهاء من سنين هذه الكلّيّة، ستجد نفسك تحمل أكثر من شهادةٍ مُلفتة ومعارف ومهارات.. ستجد نفسك قد تعلّمت في قاعات هذه الكُلّيّة وفي أروقة المُستشفيات الكثير من الدّروس غير الطبيّة.من أوّل الدروس التي قد تتعلّمها هو أنّ المرضى الأكثر حاجةً للمُساعدة هُم أيضاً الأقلّ قُدرةً على الحصول عليها. الدّرس الأوّل هذا ليس جديداً، فهو عنصرٌ متكرّر في كلّ مجالٍ يحضر فيه النّظام الرّأسماليّ وتفاوت الطّبقات الاجتماعيّة، لكن لعلّ النكهة الطبية تُعطيه طابعاً أكثر قسوة. لهذا «الدّرس» أيضاً اسمٌ نظريٌّ مُحدّد، وتوثيق علميٌّ يُدرّس في بعض المناهج. هو يندرج تحت ما يُسمّى بـ«المُحدّدات الاجتماعيّة للصّحّة» كالمُستوى التّعليمي والوظيفي وعدد أفراد الأسرة في البيت الواحد وغيرها من العوامل التي تجعل شرائح اجتماعيّة مُعيّنة أكثر عُرضةً لبعض الأمراض وتعقيداتها الخطرة. وهؤلاء أنفسهم، الّذين هم أكثر عُرضةً للمرض وتداعيته، هم الأقلّ قدرةً على السّعي وراء المُعاينة والعلاج بسبب المُحدّدات ذاتها. لكنّ القراءة عن هذا التّفاوت في الكُتب والمراجع والمناهج أمر، وقراءته في عيون عشرات المرضى الّذين ينتظرون ساعات للحصول على نصف معاينة، أو يُؤجّلون العمليّات والعلاجات الضّروريّة ويُهملون الأدوية ليضعوا فتات طعامٍ على موائدهم، أمرٌ آخر.
الأكثر إيلاماً هو أنّ التّفاوت لا يقتصر على الخدمات الطّبّيّة المادّيّة البحتة فحسب، بل كثيراً ما يضمّ الخدمات «الإنسانيّة». الحقيقة المُرّة هي أنّ التّأمين الصحّي والسّيولة الماليّة لا يشتريان فقط الجناح الواسع في المستشفى، بل أيضاً نفسيّة الطّبيب المُعاين، وصبر واهتمام الفريق الطبّيّ، واعتناء المُمرّضين، وراحة البال بأنّ كلّ شكوى مهما كانت بسيطة ستُتابع وسيُعتنى بها. هذه القاعدة ليست خاصّةً بالطّبّ، بل تتكرّر في كلّ المجالات، ولكنّها هي كذلك أكثر قسوةً هُنا. رغم ذلك، في الوقت عينه، هي قاعدةٌ سهلة الكسر، وهناك من النّماذج البيضاء من يكسرها يوميّاً.
من باقة الدّروس هذه أيضاً هو اختبار الكلفة الفعليّة للعاطفة في الطبّ. المجال هذا مُحمّل بالأوجاع بكلّ أشكالها، في عيون المرضى لحظة النّطق بتشخيصٍ مُحبط، وفي وجوه الأسر المنتظرة المُتشبّثة بالآمال، وخيبات أحبّائهم، وغيرها من الأوجاع شبه اليوميّة التي تشهدها، حتّى المؤقّت منها. بل إنّ ممرّات المشفى نفسها كثيراً ما تعجّ، في خلفيّتها، بالآلام الّتي قد لا نلتفت لها حتّى في كثيرٍ من الأحيان، من التّجمّعات أمام أبواب غرف العناية الفائقة إلى الأصوات المُنكسرة على الهاتف من أمام غرف الأحبّة.
كثرٌ يسألون كيف يعتاد الأطبّاء والممرّضون على هذا، بل إنّ البعض يعتبرها قساوة قلب منهم، وقد ينصح الدّاخل إلى هذا المجال، عن حُسن نيّة طبعاً، بالحرص على عاطفته كي لا «يعتاد» على آلام النّاس. لكنّ الحقيقة هي أنّ الاعتياد هذا هو لعنةٌ من لعنات هذه المهنة النّبيلة، وهو الوسيلة الوحيدة للاستمرار في العطاء فيها. تعتاد على أن تُقلّب الأموات كما تُقلّب الصّفحات. هو كما قال لي أحدهم مرّة: المرّة الأولى صعبة، وبعدها تُصبح التّجربة «أسهل»، حتّى تتحوّل القصص إلى أعداد ضبابيّة في الذّاكرة. يُصبح ضمن «المُعتاد عليه» أيضاً أن يُغمض أحدهم عينيه للمرّة الأخيرة في غرفته لافظاً آخر أنفاسه، فتملأ بدورك الأوراق المطلوبة ومن ثمّ تطلب الغداء وتُغادر الطّابق. وبين الحين والآخر، قد تعي بعض هذه المواقف، بوزنها العاطفيّ الفعليّ، فتتوقّف برهةً مُحاولاً استيعاب كيف خانك وعيك عن عاداتك الجديدة. ولكنّ المُعضلة والتّخبّط يبقيان دائماً بين مُرَّيْن: بين الحرص على الحفاظ على الحسّ والمشاعر في التّعاطي الدّائم، ولهذا ضريبةٌ باهظة بأن يشعر العامل في هذا المجال بالألم بوتيرةٍ شبه يوميّة حتّى يحترق عاطفيّاً، إضافةً إلى استنزافه البدنيّ، وبين المضيّ في الاعتياد البارد هذا، وفي تبنّي عاداتٍ جديدة تُبعدك وتحميك من لمس آلامٍ كثيرة.
من أكثر الدّروس المُؤلمة أيضاً هو أنّ الموت ليس نقيض الحياة، بل هو جزءٌ منها، والدّور «الإنسانيّ» للطّبّ أحياناً هو تيسير و«تلطيف» العبور إلى هذا الجزء عوضاً عن التّدخّل بعنف للحفاظ على حياةٍ لا تشبه الحياة. قد يعتبر البعض أنّ الطّبّ في المراحل الأخيرة والمُستعصية للمرض هو ساحة معركة ضدّ الموت، نُخرج من جعبتنا الأسلحة الخفيفة ونُقاتل «العدوّ». وكُلّما ازدادت المعركة ضراوة، استعنّا بالأسلحة الثّقيلة بهدف الانتصار. لكن علامَ نُحارب؟ أليس جسد المريض الذي نريد حمايته هو نفسه ساحة الحرب هذه؟ في الحرب، تكون الشّجاعة أن تُحارب حتّى الطّلقة الأخيرة، لكنّ الشّجاعة والجُرأة في الطّبّ تكونان، في بعض الأحيان وليس كُلّها، أن نضع أسلحتنا وذخائرنا أرضاً ونسمح للمريض أن يُغادر بهدوء فيدفء سرير منزله بين أحبّته بدل أن تمتلئ لحظاته الأخيرة ببرودة غرف المُستشفى وضجيج آلاتها وعنف تدخّلاتها.
سنون كلّيّة الطّبّ ثقيلةٌ جدّاً، وأثقل ممّا تتوقّعه في سذاجة البدايات وطلبات التّقديم. ليس ثقلها مرتبطاً بالدّوام الطّويل أو المناوبات اللّيليّة أو كثرة المعلومات فحسب، بل هو شديد الارتباط بأثقالٍ إنسانيّة مُنهكة، وتعبٍ من نوعٍ آخر. لكنّه تعبٌ جميل وألمٌ مشرّف. بالإضافة إلى شرف الخدمة والمُساعدة عند القُدرة، لنا شرفُ أن نحضر لحظاتٍ مصيريّة لآخرين في يوميّاتنا وأن «نتطفّل» على مشاعرهم، وشرفُ أن نرى المرضى في لحظات ضعفهم أو جزعهم، أو لحظات عزيمتهم وصلابتهم، وأن نرى عوائلهم في اللّحظات الأخيرة أو عند الخواتيم السّعيدة وتلك غير المتوقّعة. لنا شرف أن نمرّ يوميّاً، بوضوحٍ شديد أمام الفُرص الجديدة والفُرص الضّائعة. لنا شرف أن نتعلّم يوميّاً كيف نعيش، وكيف نُرتّب أولويّات أيامنا من خلال كُلّ هذه التّجارب الّتي تمرّ أمامنا بهذه الغزارة. لنا شرف أن نتعلّم أيضاً كيف نُغيّر بعض «الدّروس» الّتي يُمكننا تعديلها، كي لا تترسّخ في نمط وتجارب «المناهج» غير الطّبّيّة في الكُلّيّات.
__
* طالبة طبّ
__