جويل أبي راشد في سِفْرها النفيس، «العصفوريّة: تاريخ الجنون والحداثة والحرب في الشرق الأوسط» (الصادر عن «معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا» في كامبردج الأميركية) من مقرّها الباريسي الهانئ، بعيداً عن قرقعة الجنون ها هنا، وبمنأى عن جَلَبة الأكاديميا الرثّة بين ظهرانينا، فهي بحّاثة في «المعهد العالي للعلوم الاجتماعية» على ضفاف نهر السين، شاطر باريس إلى ميمنة وميسرة، تردّنا إلى زمان الوصل في بيروت يوم كانت العصفوريّة، أي مستشفى الأمراض العقلية، وعلى مدى قرابة قرن، بحدود واضحة المعالم، قبل أن تغلق أبوابها، فتفسح أسرّتُها وتتخطّى جدرانها. فإذا كلّنا، أجمعين، في هدأة بال وسقوط في رضى، فبلغنا الدرك الأسفل نتوهّم أنه درجة الميتافيزيق، فصحّ فينا قول كبير فلاسفة التنوير في أوروبا كانط: «وهل هناك حماقة يمكن ألّا تُدرك لا تتناغمَ مع فلسفة بلا قرار؟»، أي هيئتنا ونحن لا محالة ماضون إلى الضلال البعيد في ظل عنعنات مذهبية وحزازات طائفية، فابتعدنا عن جوهر الصراع، نسغ الحياة في جدليّة ارتقائها نحو الحق والخير والجمال. وعليه، فإذا كانت الحماقة لا قاع لها، وإذا كانت الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين، لا بُدّ إذن لمستشفى المجانين، أي العصفوريّة، تاريخ مرتبط بتحوّلاتنا. ومن هنا أهميّة كتاب جويل أبي راشد، لا سيّما أنها تردّنا، في ما تردّنا إليه، ليس إلى الأكاديميا والنظرية فحسب، وليس إلى فرويد وربعه ومن لبس قبّعة فقط، وإنما حالنا وواقعنا، فتعيد إلى الأذهان إدخال ميّ زيادة إلى العصفورية ظلماً وزوراً، وإلى مسرحية زياد الرحباني «فيلم أميركي طويل»، وصفاً لانفلات هذياننا من عقاله، فيما نحسب أنّنا ارتقينا إلى سدرة المنتهى.
تتوقف جويل أبي راشد عند الكاتبة مي زيادة التي أُدخلت العصفورية

منطلق الباحثة، وفيه صواب، أنه يمكن كتابة التاريخ بالرجوع إلى أنواع الاضطرابات العقلية التي تسود في مجتمع ما، ولذا نجدها تلحّ على أن هذه المقولة يصحّ إطلاقها على الشرق الأوسط عامة ولبنان خاصة، ذلك أن تاريخ الجنون في بلادنا متصلٌ اتصالاً وثيقاً بتاريخ التقلّبات الاقتصادية والاجتماعية، وما ينجرّ عنها من حرب وعنف وصدمات نفسيّة ونفي وهجرة. تقرّ أبي راشد بأن الخطاب اللاعقلاني في البيان السياسي زمن الحرب الأهلية، وما قبلها وما بعدها، وغياب المنطق عن مجرى الأُمور، حوّل البلاد إلى عصفوريّة رحبة وإلى مصحّ عقلي مترامي الأطراف، ما يحيلنا إلى فوكو في «تاريخ الجنون» على خطى معلّمه نيتشه القائل بأن الكون كان وعلى الدوام عصفوريّة. على هذا النحو إذن يبدو لنا شوبنهاور كبير متشائمي فلاسفة الألمان، تلميذاً ناشئاً ومدلّلاً في عُرف الباحثة، والأرجح أنها محقّة. ففي بلادنا يشيبُ الرُضّع قبل الكهول ويفزع الداغل قبل البريء، ولعلّ بعض التفسير أورده ألبرت حوراني لدى حضوره المؤتمر السنوي الخمسين للعصفورية الذي انعقد في لندن في عام 1949. إذ أعلن أن تاريخ العصفورية مشابه وموازٍ لنشأة لبنان من بلد بدائي إلى جمهورية حديثة. ولعلّ تجربة أبي راشد وهي تلميذة طبّ ممارسة في دير الصليب في أنطلياس، أي مستشفى الأمراض النفسية، قرين العصفورية، وتخصّصها في «أميركية بيروت»، أسعفتها على فهم ديناميّات الخَلل العقلي الناجم أصلاً عن اضطرابات وقلاقل اجتماعية وشخصية وسياسية واقتصاديّة. ذلك أن المرض العقلي حقيقة واقعة وبنية فكرية في قماشة اجتماعية سياسية. لا عجب إذن أن العصفوريّة كانت حتى عام 1966، وقبل الانهيار الأوسع، مرآة تعكس صورة الدولة اللبنانية في عثراتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من هذا المنطلق، ترى الباحثة بحصافة وعن وعي أن العصفورية في كتابها ها هنا استعارة عن لبنان الحديث خاصّة والشرق الأوسط عامّة، وعلى هذا المفهوم يتكئ بحثها.
العصفوريّة عندنا هي أوّل مصحّ للمجانين في المشرق، بدءاً من 1896، أسّسها مبشّر كويكري سويسري. ومنذ ذلك الحين وحتى إقفال أبوابها عام 1982، كان عرضة لتغيّرات جمّة، فمن مأوى للمختلّين عقلياً من الفقراء إلى مكان رحب لضحايا التحديث والحضارة، ومن ملجأ تبشيري إلى مستشفى محلّي، في ظلّ المنافسة الفرنسية – الأميركية، فلا عجبَ أن يعلن رئيس الجامعة الأميركية دورج في تقريره السنوي لعام 1933- 1934 أن مئات أقارب مرضى العصفورية سوف ينشرون إنجيل الرعاية الصحيّة الحديثة للمجانين في أصقاع كثيرة في الشرق الأدنى، فلّله درّه لا فُضّ فوه، إلا إن كان غرضه نشر الجنون في الشرق، فلئن كان فقد أفلح.
تقرّ أبي راشد أنّ من الصعب على وجه الدقّة وصف الحالة النفسيّة لمجتمع ما مريض، فعامل الزمن كفيلٌ بتقلّب معايير التشخيص، ناهيك بالنقص الحاصل في الإحصاء، إلا أنها تجد في ما أثارته قضيّة ميّ زيادة ما يستحقّ الوقوف عنده. إذ أن تاريخ الجنون والجنس يُظهر مدى جنوح التفاسير إلى المخيّلة والأسطرة، إضافة إلى ضيق أُفق قراءة المرحلة الاستعمارية وما عقبها للطبابة والعلاج، وميّ أُدخلتْ إلى العصفورية إثر وفاة أهلها وفقدان حبيب لم تلتقِ به (جبران) فانتقلت كما اتهمها البعض إلى عالم أوهام ورهاب وهي تقترب من عامها الخمسين، فيما ألحّ صحبها ومعارفها على أنها كانت بكامل قواها العقلية. ما أن خرجت ميّ من العصفورية بعد حجزها هناك لتسعة أشهر حتى برهنت على سلامة عقلها، فألقت محاضرة متّزنة في أميركية بيروت. هنا ترى أبي راشد أن ما أثار حفيظة الرأي العام في دفاعه عن مي هو أن صفة الجنون كانت تلحق بكلّ من لقي علاجاً في العصفورية، ففي الثلاثينات، شاع أن من يصيبه الجنون يفقد أهليّتَه ويُحرم من حقوقه، أي ما أصاب ميّ، رغم قرائن لاحقة عنها ألّحت على سلامة عقلها وأنّ تعرّضها لانهيار عصبي لا يعني مسّ جنون أصابها على الإطلاق.


تشير المؤلّفة في مواقع عدة من كتابها الموثّق المرجعي كيف أن العصفوريّة تحوّلت مع الوقت في المتخيّلة الشعبية إلى مكان – ذاكرة، كأن نقول، مثلاً، ساحة الشهداء، وانقلب اسمها إلى استعارة، وإذا بمصحّات عقلية في فلسطين وسوريا والأردن يُطلق عليها عصفوريات، قبل أن تمّحي في ما بينها الحدود. وإذا بالمنطقة بأسرها عصفورية متجانسة الملامح متناسقة القسمات وإذا بشعوبها المقهورة تتأرجح بين هواجس ووساوس. ولا عجب أن تصدح صباح (جانيت فغالي) شحرورة الوادي ابنة بدادون، الخالدة، شرق السويس وغربه، بأُغنيتها الذائعة الصيت «عالعصفورية»، فوثّقت بين الجنون وحرقة الهوى. ثم طلع علينا عبقري المسرح عندنا زياد الرحباني بمأثورته «فيلم أميركي طويل»، فأنحى باللائمة على تركيبة النظام الطائفي في سياق مطلع الحرب الأهلية، فكان مجرى المسرحيّة ومسراها في مصحّ عقلي ما أدركه الحضور على أنه العصفورية هي هي لا غيرها، وصف دقيق لانهيار الدولة في موازاة نهاية العصفورية، فلا غروَ أن الجنون عندنا سِمَة العيش، واكتمل الكحل بالعمى يوم كان اجتياح 1982، فإذا بالكلّ يغنّي على ليلاه وينفخ ببوقه فيما الطبل أجوف، ولعلّ أفشل الطبول أعظمها حجماً وأعلاها صوتاً، ولله في خلقه شؤون، فأغلقت العصفورية أبوابها رسمياً صوب نهاية عام 1982، وكان في الناس المسرّة.
منطلق الباحثة أنّه يمكن كتابة التاريخ بالرجوع إلى أنواع الاضطرابات العقلية التي تسود في مجتمع ما


هذا هو كتاب جويل أبي راشد في 309 صفحات من القطع الكبير، مع صُوَر نادرة ووثائق، لعلّ خارطة سوريا الجغرافية أبهاها عندي، صادرة في باريس صوب نهاية القرن التاسع عشر؛ فالكتاب في عُرف Andrew Skull صاحب المؤلف الرائد Madness in Civilization (الجنون في الحضارة) برهان على انحدار العصفورية بطبيعتها العلمانية وتحوّلها إلى أطلال في ظلّ الصراع الطائفي. أمّا Nikolas Rose أستاذ الاجتماع في King’s College London فرأى فيه كتاباً مرجعياً لا غنى عنه لمن شاء إدراك صلة الدين بنفوذ الطبّ، وعلاقة الاستعمار برعاياه وتبدّل علاقة تصوّرات سلامة الصحّة العقلية بالأمراض وطبائعها. ولا غرابة، فالباحثة تردّ المتون إلى مصادرها وتلحقها بالحواشي، والحواشي، كما في كشّاف الزمخشري، مخخة المتون، والحواشي ها هنا تحتلّ مئة صفحة أي ثلث حجم الكتاب، وهي، على غناها، وكثافة محتواها، ومرجعية إحالاتها، تكملة أساسية في تفنيدها حجّة أبي راشد في كشفها صلة تاريخ الجنون بالحداثة والحرب في الشرق الأوسط عبر شواهد دامغة. فلا غرابة أن يكون كتابها المجلّد الأوّل في سلسلة مطبعة معهد MIT للتكنولوجيا في ماساشوسيتس وهذه سلسلة جديدة في الثقافة والطبّ النفسي، ولا عجب أن تكون العصفورية مدخلاً إليها. وصاحبة هذا المجلّد واعدة منذ وطئت «أميركية بيروت» تدرس الطبّ وهي في بالي دائماً في معطفها الأبيض، وإلى لندن فشهادة إضافية في الفلسفة وإلى هارڤرد ودكتوراه في تاريخ العلوم، ومن هنا جاء كتابها جامعاً مانعاً لمفهوم العصب أي مهماز الحضارة ومفرقها إلى الجنون.

* Joelle M. Abi – Rached. Asfuriyyeh: A History of Madness, Modernity, and War in the Middle East. The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 2020.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا