«قلت ليوسف الخال: ادْعُ أدونيس للغداء كي لا يشغلني الطبخ. حبست نفسي أياماً مع المجموعة الشعريّة أقرأ وأعيد، أكتب وأمحو وأعيد. ووجدت أنني لا أقدر أن أستفيد من أساليب النقد المعروفة التي تدور حول النصّ دوراناً. وبدأت اكتشاف طريقتي الخاصّة، ولن أقول منهجي، فكلمة منهج تخيفني بما فيها من «أستذة»»... هكذا بدأت رحلة خالدة سعيد في النقد ومواكبة نهضة العرب الثانية في بيروت في الثقافة والشعر والمسرح والفن مع كوكبة من المبدعين والشعراء أمثال يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وغيرهم. دشّن أولئك الروّاد زمن حداثة بيروت في «شعر»، وكان لا بدّ للباحثة القادمة من الفن التشكيلي ومن مدرسة الفنون والصناعة الدمشقيّة والمتخرّجة لاحقاً من الجامعة اللبنانية وجامعة السوربون أن تستطلع «أفق المعنى»، فأمعنت فيه تأمّلاً وتشريحاً ومساءلة تلقي الضوء على الأدوار التي قام بها المثقّفون والشعراء والمبدعون الكبار، وتناقش أكثر من «مانيفستو» للحداثة وتستطلع التجارب بمشتركاتها وخصوصياتها في مؤلفات مرجعية للمكتبة العربية من «في البدء كان المثنّى» و«يوتوبيا المدينة المثقفة» و«حركية الإبداع» و«أفق المعنى» و«الحركة المسرحية في لبنان» وغيرها من عشرات الكتب والدراسات وآخرها كتابان يصدران قريباً عن «دار الساقي» و«دار التكوين». هي زوجة الشاعر أدونيس وصديقته من أيام السجن في دمشق، فتجربة «شعر» و«مواقف» مروراً بالاجتياح الإسرائيلي عام 1982 والرحيل إلى باريس، في تجربة تصفها بأنها «كانت أعظم نِعَم الله عليّ». أردناه في «كلمات» حواراً شاملاً مع الناقدة الأنيقة المؤرّخة لأجمل ما أنتجه العرب في تاريخهم الحديث، حول البدايات و«شعر» والتجربة مع أدونيس والحداثة والتنوير، تضع خالدة سعيد بين أيدينا عصارة تجربة فذّة تركّز على أكثر ما نحتاج إليه في زمن الردّة والرداءة والجمود وضيق المعنى: «التفاعل والترجمة ونحت المصطلحات وإحياء المنسيّ المُهمَل من عناصر اللغة والإلحاح على دلالات مستجدة... هذه بين الينابيع التي تستمدّ اللغةُ منها الحياة».
كيف تشكّلَ الوعيُ النّقديّ لدى خالدة سعيد؟ حدّثينا عن البدايات... في أيّ مرحلة من مسيرتك رأيت أنّك صرتِ تمتلكين منهجك الخاصّ في النّقد؟
ـــــ بالنّسبة إليّ، وفي تَصَوّري وفهمي الآن، يتشكّل الوعْيُ النّقديّ أو الفهم التحليليّ ــ التّقويميّ للنصوص والنتاج الإبداعيّ إجمالاً، على مراحل: أوّلها الاطّلاع، بدرجة كافية من المواظبة والشّغَف والتّملُّك بواسطة القراءة، أي التعرُّف المُرَكّز، والتّذَوّق الذي يستنفر الخلفيّات والذاكرات والمفهومات، وصولاً إلى الفهم المخصوص للنصّ، ورؤية الحركة الإبداعيّة الواسعة في مسارها وموقعها في التاريخ، ومعنى حضور نصوص معَيّنة، وخصوصيّة هذه النّصوص. وهذا كلّه يفترض مستوى من الاطّلاع المُتواصِل المُتخَصِّص، ومن الشّغَف أو الميل والفهم الذي يسمح بسلوك مسار التّحليل.
أنا شخصيّاً أقدر أن أصف نفسي بأنني كنت دائماً قارئة نهمة. والقراءة ملأت كلّ فراغ في حياتي بين عمر السادسة وعمر العشرين وما بعد، بطبيعة المسار. كنت أقرأ النص أكثر من مرّة حتى لو كان رواية. وبالتالي، أصبحت القراءة بمثابة سليقة أو غريزة، وتواصلَت. لم يكن الاهتمام اللغويّ ولا الحكائي الترفيهيّ هو الحافز الوحيد. فقد أمضينا أنا وأختي سنية صالح، بسبب الوفاة المبكرة جدّاً لوالدتنا، أمضينا سنوات في المدرسة الداخلية، وكنّا نبقى فيها حتى أثناء بعض العطل المدرسيّة. ولم يكن أبي يبخل علينا بالكتب لنملأ فراغ الأيام. وقد قرأت معظم الأعمال الروائية النّهضوية، لأنها كانت متوافرة في مكتبة الراهبات.
في مرحلة الدراسة الثانوية (في دمشق)، كنت أهتمّ كثيراً بتحليل النصّ، وبدأت أكتب في مجلة المدرسة مقالات أدبيّة وأخلاقيّة. ثمّ كتبت مقالات وطنيّة وأدبيّة في صحيفة للحزب السوري القومي الاجتماعيّ الذي انتميت إليه، بعد تعرّفي إلى أدونيس وارتباطي به. فقد انتسبت إلى هذا الحزب، وبقيت منتسبة مدة ستّ سنوات، ثمّ انسحبت.
لكنني، على الرغم من هيامي بل غرقي في القراءة، لم أفكّر في ممارسة النقد، وإنّما في الفنّ التشكيلي. فقد جئت إلى دار المعلّمات بعد تخرجي من مدرسة الصناعة والفنون. وقد داومت في مرسم فنّان دمشقيّ معروف مدة ثلاث عطل صيفية؛ ونجحت في مسابقة لتدريس الفنّ التشكيليّ (للطلاب في صفوف غير المتخصّصين)، ونلت الدرجة الأولى على سوريا، ودرّست فنّ الرسم مدّة أربع سنوات قبل انتقالي إلى لبنان. غير أنّني واجهت، بسبب الانتماء إلى هذا الحزب، كوارث، وانتقلت مع أدونيس إلى لبنان بعد الزواج. وكان أدونيس قد واجه ظلماً مجّانيّاً يصعب تصوّره. وبلا أيّ مُسَوِّغ، وفي كلّ مرّة كان يخرج من السجن العسكريّ الطويل (تسعة أشهر ثمّ عشرة أشهر) بـ «منع محاكمة»، لعدم وجود تهمة. (ما تفسير ذلك؟)
في لبنان مضى موضوع الفنّ التشكيلي مع ما مضى بسبب الفقر وعدم توافر الظروف والإمكانات. هكذا عند انتقالي إلى لبنان، تحوّلت إلى ترجمة الكتب (لأسباب اقتصادية)، وإلى تدريس الأدب العربيّ حتى صف البكالوريا، ولم أكن بعد أحمل إلا شهادة البكالوريا. جاء موضوع النقد مصادفةً. كنت، منذ عمر مبكر معنيّة جدّاً بالشعر. تعمّقَتْ هذه العلاقة بحكم ارتباطي بشاعر، ثمّ زواجنا. وتحمّست لحركة الحداثة التي أطلقتها مجلة «شعر». كنت أشارك، مثل غيري، في مناقشات «فندق بلازا» لدى إطلاق المجلة والحركة.
ويبدو أنّ الشاعر الراحل يوسف الخال سمعني بانتباه. لذلك كلّفني أن أكتب المقالة النّقدية الأولى التي ستُنشر في مجلة «شعر» حول مجموعة أدونيس الأولى في بيروت «قصائد أولى» (1957). وكان قد رفض مقالة كتبها عن أدونيس أحد الأساتذة في الجامعة الأميركية. خفتُ واعتذرت قائلةً لم أكتب النّقد أبداً، ولا أعرف كيف يُكتَب النّقد. وقال أدونيس قوليَ نفسه. لكنّ الخال ألحّ وقال: «أعرف ما تعرف، لقد سمعتُها».
كانت تجربة مخيفة ورائعة. وقلت ليوسف الخال «ادْعُ أدونيس للغداء كي لا يشغلني الطبخ» (طبعاً كنت تقليدية أراعي واجبات ربة البيت). حبست نفسي أياماً مع المجموعة الشعريّة أقرأ وأعيد، أكتب وأمحو وأعيد. ووجدت أنني لا أقدر أن أستفيد من أساليب النقد المعروفة التي تدور حول النّص دوراناً. وبدأت اكتشاف طريقتي الخاصّة، ولن أقول منهجي، فكلمة منهج تخيفني بما فيها من «أستذة». لن أنسى تفصيلاً طريفاً: من خوفي لم أوقِّعْ باسمي، لا سيما أنني أكتب عن زوجي، بل وقّعت باسم «خزامى صبري» الذي يبدأ بحرفَي اسمي: خالدة صالح. وبدأت الأسئلة: من هي خزامى صبري؟ ولم أتشجّع وأوقع باسمي إلّا بعد مرور سنتين وبعد كتابتي عن آخرين. نجحت، في رأي الجماعة (جماعة شعر)، فكتبت المقالة الثانية عن يوسف الخال في «البئر المهجورة» ثمّ عن نازك الملائكة، في «قرارة الموجة» وانطلق المَسار.

واكبتِ بيروت حين كانت مختبراً للحداثة العربيّة وبياناتها التأسيسيّة في الشعر والأدب والمسرح. ماذا تتذكّرين من تلك النهضة؟ هل كانت مشروعاً يتشكّل وقضت عليه الحرب؟
ـــــ نعم واكبتُ انطلاقةَ حركتين، في الشعر والمسرح. وأسمح لنفسي بالقول إنني لم أكن بعيدة أو غريبة عن الجوّ. ومع أنني كتبت عن الحركتين، فإنني أعتبر مشاركتي متواضعة تنحصر في ميدان التلقّي والنّقد. لقد أفدتُ من الحركة العامّة، بل اعتنقتُها، وحاولت أن أكتب عن كلّ جديد، من الشعر إلى المسرح، وهما الحركتان الأوضح والأقوى في المرحلة القائمة بين أواخر الخمسينيات ومنتصف السبعينيات. لكن، طبعاً كتبت عن المسرح من الخارج، ولم أُسهم إلّا كناقدة أو دارسة وبتكليف من «مهرجانات بعلبك الدوليّة». أشير هنا إلى كتابي «الحركة المسرحية في لبنان». أذكر فوران الستينيات من القرن الماضي. ذلك التطلّع والإحساس بأنّ العالم يولد من جديد، وأنّ الأفق مفتوح لجميع الإمكانات. كان عليّ أن أقرأ قراءتي وأن أكتشف طريقتي. وقد بذلت اهتماماً وقرأت كتباً، وتحدثت طويلاً إلى الشعراء وبالأخصّ إلى المسرحيين.
من أجل الدراسة عن المسرح، سجّلت عشرات الساعات من الأحاديث على مدى ثلاث سنوات متواصلة. فكأنني درست المسرح وتاريخ المسرح اللبنانيّ، وجانباً من المسرح الأرمني ــ اللبنانيّ والفرنسيّ ــ اللبنانيّ ومسرح الجامعة الأميركية. والحقيقة أنّ الشكر في إعطائي الوقت الذي اتّسع لهذه الدراسة أوجّهه لسيدات المهرجان، وبالأخصّ إلى الراحلتين سعاد نجار ثمّ جانين ربيز، وكانتا متخصّصتَين في المسرح العربيّ. ولن أنسى التعاون المدهش للمسرحيين أنفسهم، من المسرح العربيّ إلى الأرمنيّ والفرنسي ومسرح الجامعة الأميركية.

تقولين في «يوتوبيا المدينة المثقّفة»: «البنى المباشرة أي السياسية الاجتماعيّة الاقتصادية على أهميتها لا تصنع النّهضة ما لم تكن في أساسها وأساس تطلّعاتها، أبعاد الإنسان الحرّ المُنفتح عمقيّاً، الإنسان في حضوره الكلّيّ الواعي والباحث» هل توافرت شروط النهضة المُشار إليها في العالم العربي؟ أم أننا ننتظر غودو؟
ــــ يصعب هنا الكلام بدقة علميّة. لكن، بالنسبة إلى لبنان، على الأقلّ، (وحتى إلى غيره من البلدان العربية) فإنّ أسباب النهوض، (دوافعه، عوامله، مقوّماته التاريخية والراهنة، فرسانه، وعديد من شروطٍ ثقافيّة ـ حضارية) حضرت بكلّ تأكيد. لنتذكّر الحماسة التي استُقبِلَت بها مهرجانات بعلبك، أو بعض الحركات المسرحية والأدبية والفنّيّة والموسيقيّة. عدد الجامعات، عدد الأقطاب، عدد المبعوثين المتفوقين، وأصحاب المشروعات... لكن أيضاً، لنتذكّر: الحرب الحرب يا إخوتي! الحرب الأهلية هذا الجنون التاريخيّ! الحرب التي تهدم ولا تبني:
الحرب الأهلية اللبنانية لعبت دوراً مُعَطِّلاً ومُحبِطاً. وفوق ذلك هناك خلل مؤسَّسيّ تنظيميّ. لأنّ غياب البنى الراسخة مسؤول بعض المسؤولية. على أي حال، موضوع النّهوض لا يقتصر على حركة فنّيّة هنا وحركة أدبية هناك. بل يتطلّب بحثاً أشمل. ولا بدّ من التساؤل عن أسباب صعود الحركات الإبداعية صعوداً مدهشاً بل متفوِّقاً، وانطفائها بعد وقت قصير من دون استكمال مسارها ومن دون أن تترك ورَثَة يمكن نهوضهم بما يسمح بمواصلة المسير.

هل النقد في العالم العربي ممكن إن لم يلمس البنى العميقة للمجتمع العربي؟ والنقد الأدبي ممكن برأيك في تراث أدبيّ في غاية التشابك مع التراث الدينيّ؟
طبعاً النقد ممكن، ولو بصعوبة؛ أو يتطلّب كثيراً من الدقّة والتعمّق وعدم الشطح والشجاعة، بل المغامرة على حدود الدين. لنتذكر المراحل التاريخية في بلادنا وفي العالم. إنّه الصراع أو الجدل المتواصِل. لنتذكّر عشرينيات القرن العشرين وغيرها من المراحل: طه حسين وعلي عبد الرازق.... هناك ظالمون متسرّعون، لكن هناك أبطال ومندفعون لقول ما يؤمنون به. في كل حال، التطرُّف لا يجدي أو لا ينجح. ولا شيء يوقف التطوّر مهما جرى تعطيله أو مهما كان الارتكاس. إنّما لا تطوّرَ بلا صراع، أو على الأقلّ بلا جَدَل ومواجهة. وفي الوقت نفسه لا يحصل دائماً أن يتوالى التطوّر ويتواصل. ومخاطر الارتكاس قائمة دائماً. لنسأل التاريخ.

هل خسرنا معركة التنوير والحداثة في العالم العربيّ أمام الطُّغاة والأصوليين والفقهاء؟ وإن لم نخسر هذه المعركة بالضربة القاضية، من أين برأيك نبدأ تثوير الإنسان العربيّ وتنويره؟
ـــ ليس عندي مخطّط لتثوير الإنسان العربي. هذا العنوان كبيرٌ عليّ. عندي مبادئ وقيَم تحترم حريةَ الفكر وتُحَذّر من التكفير وتدعو إلى البحث والاستشراف. عندي إيمان بالتّنوير والمتنوِّرين، عندي إيمان بالمعرفة اكتساباً وعطاءً. أؤمن بحرية البحث والحوار والتبادل والتعبير. كما أعرف أن طرق الرسالات، مثل طرق التجديد، لم تكن سهلة في أيّ يوم. لنتذكّر عصر النهضة، على الأقلّ. شخصيّاً، لا أحبّ إلقاء اللوم على الظروف وحدها أو على الحاكمين مهما كان طغيانهم.

هل اللغة العربية تساعد النّاقد اليوم في أي منهجية علميّة، في ظلّ الشرخ بين العامية والفصحى، وعجزها عن أن تكون لغة علميّة مصنَّفة؟ هل المناهج المدرسية (اللغوية خاصّةً) مؤهّلة في العالم العربيّ لمواكبة العصر والحداثة؟
ــــ سمعت كثيراً عن عجز اللغة العربيّة. كيف يعجز «الفاهِم» عن التعبير عمّا فهم؟ وهل من فَهم علميّ خارج اللغة؟ وهل للّغة جدران تمنع الاكتساب أو ترجمة المصطلحات أو توليدها أو اشتقاقها وتحليل المعلومات؟ طبعاً هذا لا يتمّ ارتجالاً. والمعرفة سافرت دائماً، من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق. ووسائط سفرها ممكنة اليوم أكثر من أي وقت مضى. المعرفة، العلميّة خاصّةً، لها جنسية «إنسانية» لا تتنافى مع أيّ من الخصوصيات القومية.

هل قدّمت البلاغة العربية نظرية لغوية ونظرية أدبية تشهدان بـ «عبقرية» ما للعقل العربي؟ ولو لم يرفع الحداثيون شعار «القطيعة مع التراث»، هل كان من الممكن تطوير خطّين في الثقافة العربية لا يقلّان نضجاً وتكاملاً عن المدارس اللغوية والأدبية الغربية؟
ـــ حضرتُ معظمَ السجالات في لبنان، وقرأت كثيراً مما كُتِب في بلدان عربية وغير عربية حول الموضوع. لكنني سمعت عن حرية التغيير والتطوير والإبداع، ولم أسمع عن القطيعة مع التراث. صحيح وردت كلمة «قطيعة» بمعنى حرية التطوّر والتطوير، جماليّاً أو أسلوبيّاً أو على مستوى القضايا والمعالجة. وهذا تفرضه الطبيعة وحركة الحياة والنموّ والتعمُّق وصدمة الاتصال والاختلاط وآليات الاكتساب أو الامتصاص، وانزياح القيم والظروف وتسارع الإبداعات والتواصُل وسائر الشروط التاريخية. أمّا القطيعة؟ كيف تكون القطيعة؟ وبأيّ آليات يتمّ ذلك لو حضر توجُّهٌ أو قرارٌ من هذا المستوى؟ حتى حالات الغزو الشامل، فإنها تُواجَه من قِبَل المغزوّ بالتقوقُع والتشبّث بالجذور لا بالقطيعة ولا سيما مع اللغة الأمّ. لكن صحيح أنّ منطق التصوير البلاغيّ تطوّر وبات يجنح نحو المجاز واللمح وحتى الغلوّ في التجريد، أكثر مما يأنس إلى التشبيه والاستعارة الكلاسيكية. ولا أجد اللغة العربية والمفكّر بل الإنسان العربيّ قاصراً عن السيطرة على هذا التطور والاغتناء به.

هل يُعَدّ الحديث عن فكر إنسانيّ اليوم حديثاً مُغرِقاً في المثالية؟ وهل ينبغي تأصيل ثقافات قومية أو عرقية؟ وكيف السبيل إلى ردم الهوّة الثقافية بين الغرب المُتَنَوِّر والعالم العربي المُغرِق في أصوليّاته؟
ــــ هذه ثلاثة أسئلة أو ثلاث قضايا كبيرة ومتمايزة:
أ ـ الحديث عن فكر إنساني بالمعنى المطلق المجرّد هو مثاليّ حقّاً، لكنه ليس عبثيّاً أو بلا أفق أو دلالة.
ب ــ الثقافات القومية والعرقيّة أصيلة، لكن تنبغي حمايتها، لا بالانغلاق، بل بإدخال نسمات الحياة والتفاعل إلى نسيجها، ولا بتجميدها أو تحنيطها وقوقعتها والتقوقع داخلها؛ لأنّ هذا يحول دون تفاعلها بالواقع الحيّ. التفاعل والترجمة ونحت المصطلحات وإحياء المنسيّ المُهمَل من عناصر اللغة والإلحاح على دلالات مستجدة. ثمّ التفاعل. هذه بين الينابيع التي تستمدّ اللغةُ منها الحياة. أمّا كيفية ردم الهوّة الثقافية بين الغرب والعالم العربي، فهو سؤال يتجاوز إمكانات هذا الحديث. أقدر أن أقول عبارتين: أنا مع التفاعل والبحث ولست مع الانفعال. وأعني الابتعاد ما أمكن عن «النقل المحض».

تقلّص حضور النّقد في الساحة الشعريّة اليوم. بتنا مُغرَمين بنظريّات الموت من موت المؤلِّف إلى موت الشعر نفسه، وصولاً إلى موت الناقد. هل «مات» النّاقد فعلاً؟ هل النقد كما مارستِه طول هذه السنوات كان جسراً بين المبدع والمتلقّي؟ ومن هم قرّاء المحاولات النقدية؟
ـــ لا تستمرّ الأمور على حالها. ألا تلاحظ في الوقت نفسه تزايد البحوث الأدبية والاجتماعية والإنسانية والتحليلات السياسية والأنتروبولوجية، والعلمية؟ لا أحبّ التصنيفات كثيراً. لكنني أقول إنّ النقد هو أكثر من شارح يقوم بوظيفة التواصل بين المبدع والقارئ. فهو، إلى هذا، يضيف رؤيته للموضوع، ويكشف لهذا الموضوع أبعاداً جديدة وتداخلات جديدة، وربّما قلب الموقف برمّته واكتشف بعداً خفيّاً في النصّ المدروس. فالناقد ملتزم بالنص المدروس، هذا صحيح، لكنه ليس أسيره، بل يسافر فيه وحوله، ويفتح أضواء ومداخل. ولا ننسى أنّ التطوّر قد شجع البحث الأدبيّ وأسقط على النصوص أضواء جديدة. النقد الأدبي لم يعد مجرد شرح وتقويم. التحليل نفسه اتّسعت آفاقه في اتّجاهات عديدة أدبية وفلسفية واجتماعية وسياسية...
المعرفة، بخاصة العلميّة، لها جنسية «إنسانية» لا تتنافى مع أيّ من الخصوصيات القومية (خ. س)


كيف هي قصيدة النثر اليوم؟ هل ثمّة استسهال وهشاشة في كتابتها؟
ــــ اسمح لي أن أهمل سؤال قصيدة النثر كنوع أدبيّ مخصوص ومستقلّ. لكن ما سمّي قصيدة النثر هو شعر مطلق لا يتقيّد بالمسار التاريخيّ للشكل الشعريّ تحديداً. شاعر ما يُسمّى «قصيدة النثر» يستوحي جمالياته من مصدر غير المصدر الموسيقيّ المتمثّل بالوزن. الآن، هل ينجح أو لا ينجح هذه قضية مختلفة، بل فردية. وفي الوقت نفسه، لم يعُد الوزن درعاً حامياً أو معياراً كافياً لضمان القيمة الشعرية. وبالطبع، الكتابة نثراً لا تشفع بنص ضعيف. الآن النص بكامله لفظاً ومناخاً ودلالات هو المعيار. أمّا عن الاستسهال؟ الوزن أيضاً كان معياراً سطحيّاً لا يضمن القيمة الشعرية.

كرَّسْتِ كتاباً تأريخيّاً نقديّاً مهمّاً للمسرح اللبنانيّ، لعلّه المرجع الأهمّ للعصر الذهبيّ للمسرح اللبنانيّ وتعملين على كتاب شامل عن فيروز. إلى أي مدى تقتربين في منهجك ومشاغلك من تصوّر شامل للنقد العابر للأصناف الأدبية والأنواع الإبداعيّة، على نقيض النقد التخصّصيّ الذي ينحصر بنوع معيّن؟
ــــ لنبدأ بتصحيح الخبر الذي انتشر حول الكتاب عن فيروز: صحيح أنني رغبت في ذلك، وزرتُها على امتداد سنوات لهذه الغاية، بل منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي الأساس قمت بذلك بطلب من «دار مركور دو فرانس» (كانت تملكها وتديرها مدام غاليمار والدة أصحاب «دار غاليمار»، على روحها الرحمة) أي أهمّ دار في فرنسا. ولكنّ المهمة لم تنجح. السيدة الغالية النبيلة على قدر عظيم من الخفر، ولا تتكلّم عمّا يخرج عن العموميات أو الأخبار المعروفة. هذه الأخبار مهمّة. لكنها لا تكفي، وهي موجودة في الصحف. كتابة السيرة تطلب الكلام، وإن لم يكن كلّ الكلام. لكن لا بدّ من حكاية فيها شيء من الخصوصية والجِدّة قياساً إلى الشائع المعروف. الآن صرتُ في وضع صحيّ لا يسمح بالسّفر، ولا بالعمل على موضوع بالغ الجدية، بل هو بالنسبة إليّ موضوع مقدّس. لكنه الآن مضى. تجاوزه الوقت، تجاوزني الزّمن، وتجاوزَ إمكاناتي. نأتي إلى كتابي عن المسرح اللبناني: لقد أعطاني فرصة عظيمة للاقتراب من الفنانين المسرحيين. حاورتهم ودرست أعمالهم، وتكرّموا عليّ بملفّاتهم وذكرياتهم وتحدّثوا عن تجاربهم. كان المشروع في البداية أقلّ أو أبسط مما صار عليه بفضل غزارة المعلومات وغنى التجربة وعمقها، أي بفضل المسرحيين. فقد تعاونوا بحماسة شرّفَتْني حقّاً. وأسعدني صدور هذا الكتاب قبل وفاة بعض سيدات المهرجان ولا سيما سعاد نجار وجانين ربيز. وأنا في الحقيقة اغتنمت الفرصة لأعمّق الموضوع، فلا يأتي إخباريّاً، وطالبت بالمهلة بعد المهلة، واستغرقت سنوات حتى بات النّصّ مُرْضِياً لهيامي بالمسرح والحركات الفنية وبلبنان.

وصفت الحداثة في كتاب «أفق المعنى» بعقدة جلجامش، اشرحي لنا هذه التّسمية.
ـــــ عقدة جلجامش تسمية أو اصطلاح تصوّرتُه انطلاقاً من دراستي لملحمة جلجامش. (لم أنشرها بعد). سأشرح بإيجاز:
جلجامش (ثلثه إنسان ثلثاه إله) مع ذلك لا مهرب له من الموت، شأن البشر جميعاً. وهذا هو هاجسه ومعضلته أو عقدته. يمرّ بأطوار:
1. مرحلة الغرق في الحسيّ تهرُّباً من وعي الزمن.
2 ثم حتمية الوعي بالموت وبمحدودية الزمن، حين يموت صديقه.
3. يذهب في سفر طويل إلى ما وراء بوابة الشمس ليحصل على عشبة الخلود. وتقع له في طريق العودة مع العشبة أحداثٌ جسام. ويصاب باليأس.
4 . لكنه حين يعود يائساً، بعد فَقد العشبة واليأس من الخلود، يكتشف حلّاً أو علاجاً أو عزاءً واقعيّاً إبداعيّاً عن معضلة الموت: هذه المعاناة وهذا الوعي وهذا الحلّ المدهش، هو ما أسميته «عقدة جلجامش».

رافقتِ أدونيس كزوجة وناقدة وصديقة. كيف تصفين هذه التجربة؟
ــــ كانت أعظم نِعَم الله عليّ. ليس فقط بسبب لطف أدونيس ونبله. فإلى جانب ذلك، يشعر من يعيش قربه أنه مُطالَب دائماً بأن يكون بالغ الذكاء سريع الفهم، واسع الاطّلاع، يستبق الأشياء ويتنبّأ بالخطر كما يتنبّأ بمصادر النور؛ أي أن يكون عظيم الحساسية بعيد الرؤية. القرب منه طالبَني بحضور أموميّ ورؤية استباقيّة، وبأن أتجاوز نفسي في كل خطوة، وبالأخص جعلني أطمح إلى استقبال مميّز للشعر. ولا أعرف إن كنت قد حققت القليل من هذا الطّموح. عندي شعور دائم بالتقصير.

الناقد ملتزم بالنص المدروس، هذا صحيح، لكنه ليس أسيره، بل يسافر فيه وحوله، ويفتح أضواء ومداخل (خ. س)


هل من حنين إلى بيروت؟ ماذا طبعت فيك باريس؟ ماذا عن دمشق؟
ــــ الحنين إلى بيروت لا نهاية له. عشت فيها كأنها حضن الأمّ بعد الفراق. وهكذا هو حنيني إليها. أنا الآن لا أعيش في باريس، أعيش في بيتنا الخاصّ، الذي لا أغادره إلا إلى الطبيب. دمشق، أيضاً، بلدٌ عظيم عريق كريم. وفضل أهلها عليّ كبير.

تعاني الصحافة الجادّة تحدّيات جديّة في زمن التفاهة والتطبيع والتطرُّف. هل من تكامل بين النقد الصحافيّ والنقد الأكاديميّ؟ وهل من كلمة أخيرة لـ «الأخبار» والقرّاء؟
ـــــ أولاً هذا التكامُل هو ما نعَوِّل عليه. نأمل أن يواصل النقد التحليلي تطوّره مع مزيد من الرفق بالنص الإبداعيّ. لكن ينبغي أن نتذكّر بأنّ جاذبيّة الحكاية والخرافة كانت دائماً أقوى من جاذبية الحقيقة. علماً بأنّ الحقيقة لا تخفى طويلاً ولا تُمحى. إنه زمن التّحوّلات السريعة وزمن الاستهلاك: استهلاك الأخبار خاصّةً (أعني الحكايات). كأنّ الأخبار حلّت محلّ الحكايات والسِّيَر. ولا وقت للتحليل والمقارنة، بينما فنون الإعلام لا تكفّ عن التطوّر. آمل أن يتوصّل علم النّقد والتحليل إلى إيجاد آليات ومناهج لمزيد من الكشف والتدقيق والمقارنة. لكن نظام الأمواج هو ما يتطوّر ويتصاعد ويهدّد باجتياح عالم الإعلام. الصحافة اللبنانية صحافة رسالية. في عمق كل افتتاحية أو مقالة فكرية أو سياسية هناك عبرة، هناك ضوء وفكرة. فيها صوت معرفيّ رساليّ فاتح. أشكر جريدة «الأخبار» عظيم الشكر. وأحيي قرّاءها وأرجو لهم وللعالم أجمع نعمة العافية وأنوار المعرفة.



كتابان جديدان


كتابان نقديّان يصدران لخالدة سعيد قريباً: الأول عن «دار الساقي» في بيروت بعنوان «فضاءات» والآخر تنشره «دار التكوين» في دمشق بعنوان «رؤى وروايات». كتاب «فضاءات» يواصل ما بدأه «يوتوبيا المدينة المثقفة» الذي صدر عام 2012. وإذا كان لا يدّعي الشمول، فهو يلقي الضوء على سبعة وثلاثين مبدعاً لبنانياً هم: الشيخ عبد الله العلايلي، يوتوبيا فيروزية، سعيد تقيّ الدين، ميشال أسمر والندوة اللبنانية، فينوس خوري غاتا، خليل سعادة، سهيل إدريس، أنسي الحاج، مارون عبود، مونسنيور ميشال الحايك، شفيق جحا، يمنى العيد، عادل ضاهر، دسلوى نصّار، صلاح ستيتية، سعاد الحكيم، منى السعوديّ، أمين الريحانيّ، غسّان تويني، يوسف حبشي الأشقر، هلن خال، عبّاس بيضون، فاطمة الحاج، ألبير أديب، هدى بركات، الياس خوري، سعيد عقل، صفية سعادة، عقل العويط، إيليا أبي ماضي، أديب مظهر، صلاح لبكي، فوزي المعلوف، شفيق المعلوف، الياس أبي شبكة، يوسف غصوب، جورج شحادة. أما كتاب «رؤى وروايات» فهو يتناول روائيين هم: سلوى بكر، ليانة بدر، يوسف حبشي الأشقر في روايتين، الياس خوري في روايتين، الطيّب صالح في رواية، ناصر الدين خمير في فيلم روائي بعنوان «طوق الحمامة المفقود».
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا