سمحت الظروف أن ألتقي الشاعر والمفكّر أدونيس مرات ونتناقش في اهتماماته. ولكن لم ألتقِ زوجته خالدة سعيد إلا عن بعد: تحيات عابرة برفقة أصدقاء في مكتب مجلة في بيروت وفي معرض بيروت الدولي للكتاب. غير أنّ هذا لم يمنع أن أتابع وأتعلّم من كتاباتها التي تساوي بنظري أعمال عمالقة النقد الأدبي في أوروبا وأميركا، وأن أواظب على شراء كتبها ومؤلفاتها، وأقرأ مقالاتها بإعجاب. هي خالدة صالح زوجة الشاعر أدونيس وشقيقة الشاعرة سنية صالح زوجة محمد الماغوط. درست خالدة الأدب العربي في جامعة دمشق وفي الجامعة اللبنانية في بيروت ثم حازت شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون في فرنسا. وهي إلى جانب الكتابة، عملت في مدارس ثانوية في لبنان، ثم تفرّغت للتعليم في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية منذ عام 1958 حتى تقاعدها عام 1996. ثم توزعت حياتها بين بيروت وباريس وقرية قصابين في اللاذقية.

مع أدونيس في بيروت يوم 26 آذار (مارس) 1954

أعتبر خالدة سعيد رائدة الأدب النسائي العربي الذي انطلق من بلاد الشام والعراق ومصر في الخمسينيات والستينيات ليعمّ العالم العربي من طنجة إلى المنامة والخرطوم. فكتاباتها النقدية ساهمت في تقديم شاعرات رائدات مثل نازك الملائكة في العراق وفدوى طوقان في فلسطين. وجاء ذلك في حقبة النهضة العربية الثانية حيث برزت فيها أديبات مثل كوليت خوري وغادة السمان في سوريا، وليلى بعلبكي (أنا أحيا) في لبنان، وكذلك في مصر وشمال أفريقيا حيث نشط الأدب النسائي وتواصل في ما بعد مع آسيا جبار وأحلام مستغانمي وفاطمة مرنيسي وفاضلة المرابط ونوال السعدواي ونادية تويني. وحتى في النضال الوطني، باتت المرأة العربية تقف يداً بيد مع الرجل مثل ليلى خالد في فلسطين، وجميلة بوحيرد في الجزائر.
أمّا ريادة خالدة الثانية فهي حضورها كامرأة في قلب الحركة الشعرية العربية الحديثة وخاصة ما عُرف بشعر الحداثة، ومن أبناء تلك الحركة صلاح عبد الصبور في مصر، ومحمود درويش في فلسطين، وبدر شاكر السياب في العراق وأبو القاسم الشابي في تونس وغيرهم كثيرون. كانت بدايات ريادتها هذه في مسقط رأس خالدة في اللاذقية التي كانت مختبراً حيوياً للفكر والأدب وكذلك للنشاط الحزبي التنويري سواء من الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتمت إليه، أو إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. فجمعت خالدة – مثل زوج المستقبل أدونيس - ثنائية الأدب والعقيدة، في وقت كان الشاعر أحمد علي سعيد يسهم في مطبوعات كجريدة «الإرشاد» ومجلة «القيثارة»، موقّعاً باسم «أدونيس» الذي اشتهر به. ثم انتقل إلى دمشق للدراسة في جامعتها وعمل في جريدة «البناء» الناطقة باسم الحزب القومي، ومن شعره في تلك الفترة قصيدته «قالت الأرض». ثم بدأ أدونيس يُرسل قصائده إلى الأديب القومي سعيد تقي الدين الذي نشرها في مجلة «الآداب» 1951. وفي عام 1950، عقد أدونيس خطوبته على خالدة ولم تسمح الظروف بالزواج قبل مرور سنوات. فهو تخرّج من جامعة دمشق في الفلسفة سنة 1954، ثم التحق بالخدمة العسكرية في العام نفسه، وقضى سنة في السجن بلا محاكمة بسبب انتمائه إلى الحزب القومي. وهذا الانتماء جلب الصعوبات لخالدة وأدونيس في سوريا، حيث تعرّضت خالدة للسجن مراراً بدون جرم ارتكبته. وإذ غادر أدونيس سوريا في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1955 بعد انتهاء خدمة التجنيد الإجباري، أمضت خالدة فترة أخرى في السجن، ما أجّل زواجهما حتى عام 1956.

خميس مجلة شعر: (من اليسار) خالدة سعيد، وسميرة عزام وفدوى طوقان ومن اليمين: يوسف الخال، وأحمد طوقان

في بيروت، التقى أدونيس الشاعر يوسف الخال وهو كان مثله قومياً سورياً. فأصدرا معاً مجلة «شعر» في مطلع عام 1957. وسرعان ما ضمّت المجلة شعراء قوميين سوريين كانوا في بيروت أو هربوا من سوريا أمثال نذير العظمة وأدونيس ومحمد الماغوط، إلخ. إذاً ضمن هذه الكوكبة من الأدباء، انضمت خالدة سعيد لاحقاً وباشرت عملها في المجلة في عددها الثاني بمقالات نقدية واكبت الحركة الشعرية الحديثة تحت اسم خزامى صبري. فعرّفت عنها المجلة أنّها «ناقدة سورية شابة تقيم في دمشق وتدرس الأدب العربي». واستضافت خالدة في منزلها المنتدى الأدبي المرافق للمجلة باسم «خميس مجلة شعر»، الذي كان يشارك فيه إلى جانب زوجها أدونيس، يوسف الخال والماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وعصام محفوظ ونذير العظمة وغيرهم. وفي العدد الثالث، كتبت مقالاً نقدياً صارماً عن ديوان الشاعرة العراقية نازك الملائكة «قرارة الموجة»، ومقالة نقدية عن ديوان «لن» للشاعر الجديد آنذاك أنسي الحاج. وفي العدد الرابع (خريف 57) كتبت مقالة نقدية عن ديوان الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (وجدتها)، ثم مقالة نقدية عن ديوان الشاعر خليل حاوي (البعث والرماد) الذي كان أيضاً قومياً سورياً في عدد شتاء 1958، ثم مقالة عن ديوان محمد الماغوط في صيف 1959 (حزن في ضوء القمر). وبعد ذلك، بدأت مقالاتها تصدر باسمها الحقيقي وسرعان ما أطلقت عليها الصحف لقب «أيقونة النقد الأدبي الحديث».
ومنذ عام 1960، أخذت خالدة تؤلف الكتب والدراسات التي فاق عددها ستين مؤلّفاً، بدءاً بكتابها النقدي «البحث عن الجذور» عن دار مجلة «شعر». وكان لافتاً أنّ اشتغال خالدة على النقد الأدبي وإبراز شاعرات نساء في مقالاتها، لاقاه في نفس الفترة نفس الاشتغال للشاعرة العراقية نازك الملائكة التي أصدرت عام 1962 كتابها المحوري «قضايا الشعر الحديث» (والذي لا يزال يدرّس في الجامعات حتى اليوم). وتقع أهمية العمل النقدي لخالدة سعيد أنّ النقد هو عصب الأدب الذي بدونه لا يحصل ارتقاء وثقافة، وهكذا كان منذ زمن المعلقات السبع في عصر الجاهلية حيث كان الناقد الأبرز النابغة الذبياني شاعراً أيضاً، فلم يكن بروز الخنساء (تماضر بنت عمرو) سوى لأنّها شاعرة كبيرة باعتراف نقاد عصرها.
أسهمت في تقديم شاعرات رائدات مثل نازك الملائكة وفدوى طوقان


ثم إنّ خالدة هي رائدة أيضاً في ريادتها للنقد الذي تتالى في كتبها الجميلة ومنها أإيضاً «حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث»، «في البدء كان المثنى»، «فيض المعنى»، «يوتوبيا المدينة المثقفة»، «جرح المعنى»، «أفق المعنى»... كما وضعت مقدّمات عشرات الكتب والدراسات الفكرية، واشتغلت على مشروع الأعمال الكاملة لسنية صالح، فضمّ قصائد ومقالات وقصصاً كانت تُنشر للمرة الأولى.
ولم يقتصر عمل خالدة سعيد على النقد الأدبي، بل تجاوزه إلى النقد المسرحي حيث وضعت كتاباً عن المسرح اللبناني يغطي الفترة 1960 إلى 1975. وإذ لم يُشِر كتابها هذا إلى مسرح الرحابنة إلا قليلاً وبشكل عابر، اكتفت خالدة سعيد بالقول إنّ الأعمال الفولكلورية التي قدّمها الرحابنة في مهرجانات بعلبك «يمكن اعتبارها خطوة أولى نحو تطوير مسرح محلّي لبناني» لا أكثر. وأضافت أنّ ثمّة ميّزات لمسرح الرحابنة هي خارج مهام النقد المسرحي الجاد وتحتاج معالجتها النقدية إلى كتاب آخر. ورغم تمييز خالدة سعيد بين إعجابها بفيروز في مقالات عدة وضآلة ما قالته عن مسرح الرحابنة، فهي كتبت في مناسبة عودة ظهور فيروز في بعلبك عام 1998، أنّ «فيروز هي ظاهرة فريدة من نوعها أصبحت رمزاً لبعلبك. وأنّ فيروز هي من تلك المرّات النادرة التي يتحوّل فيها الفنان رمزاً لأمّته. في أحلك الظروف، لم تفقد فيروز الأمل بأنّ الفن هو صورة لبنان الخالدة، ولم تفقد الإيمان أنّ الفن ينقذ العالم. أصبحت رجاءً للبنان يوتوبي مثالي».

* أستاذ جامعي ــــ كندا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا