منذ صدور كتابها النقدي الأوّل «البحث عن الجذور» في عام 1960 عن دار مجلّة «شعر»، وهي في الخامسة والعشرين، رسّخت خالدة سعيد موقعها النقدي على خارطة الحداثة العربية. ما أن وصلتْ من دمشق إلى بيروت مع رفيق دربها أدونيس حتى عزّزت رؤيتها الثاقبة في أنّ الشاعر عندنا، مثله مثل الشاعر أينما كان، لهو في مواجهة طغيان المادّة وانحسار الروح وقواها، وفي أنّ الحساسيّة الشعريّة العربيّة المعاصرة ظهرت إثر احتكاكها الثقافي بالغرب، مشبّعةً بصورة جليّة بأزمة الإنسان المعاصر طامحاً لأن يثقبَ جدران المعقول. على هذا النحو، انخرطت خالدة سعيد تحت راية مجلة «شعر» حين أصدرها يوسف الخال رئيسَ تحرير مع أدونيس مديرَ تحرير بدءاً من شتاء 1957. في البدء، تعاونَ الخال مع خليل حاوي، لكن هذا الشاعر المبدع انسحب، فلم يكن من جماعة «شعر» ولا هو أراد. واتّفق أن التجأ إلى بيروت آنذاك شعراء سوريون شبّان كانوا أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي أو مقرّبين منه (نذير العظمة، محمد الماغوط، فؤاد رفقة)، ثم اكتملت نواة مجلة «شعر» حين انضمّ إليها شوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وعصام محفوظ وأسعد رزّوق.بعد قرابة عقدين على إصدارها «البحث عن الجذور»، خصّت خالدة سعيد مجلّة «مواقف» بدراسة معمّقة تحت عنوان «الحداثة أو عقدة جلجامش» (مواقف، 1982) أسهبت فيها بتنامي أزمة التصدّع في نصّ الحداثة بردّه إلى الوعي باختلال العلاقة مع الصورة الأبوية أو الأنا الكاملة، ذلك أنه لا انفصال بين الصورة الكلّية للعالم كما استقرّت في ثقافة ما، وبين هوية الفرد في هذه الثقافة. وعبر هذا الاختلال تنشأ أزمة يمكن بها فهم أسطورة الموت والانبعاث التي استحوذت على مخيّلة شعراء الحداثة في الخمسينات والستّينات. إذ كان لأسطورة تمّوز أو أدونيس، بأشكالها وتمثيلاتها المختلفة، شيوعٌ مردّه صياغة هذا التصدّع واختلال العلاقة بالأنا الأبوية، وحيّز للتحوّل من عالم الأب إلى عالم الابن وفق علاقة تضادّ. فلكي يحيا الشاعر، ينبغي له أن يموت. ظهر هذا المنحى واضحاً عند أدونيس والسيّاب وحاوي والخال وجبرا، لكنّ خالدة سعيد لا تُهمل شعراء الجيل الجديد، من عبّاس بيضون إلى سمير الصايغ، فيما تضع الحداثة في إطارها التاريخ منذ طه حسين وعلي عبد الرازق إلى الياس خوري وكمال أبو ديب، مع إضاءات على محمد الماغوط وسنيّة صالح وتوفيق صايغ وصلاح عبد الصبور وغسّان كنفاني وإميل حبيبي.
بعد قرابة ستين عاماً على صدور «البحث عن الجذور»، تعلن خالدة سعيد في جديدها «أفق المعنى» (دار الساقي، 2018) أنّ الحداثة أفق مفتوح، فلا نهائيات بل رؤى واحتمالات، وأنها وضعيّة فكرية إشكاليّة تميّز المنعطفات الكبرى في تاريخ الثقافات، وتلحّ الناقدة على أن العلمنة بعدٌ من أبعاد الحداثة، كما في فكر أنطون سعادة حين طرح مسألة الأصالة من حيث هي ديناميكية الأنا التاريخية.
تُولي خالدة سعيد جبران مكانة خاصّة في نصّه القائم على تجسيد ثنائية المحجوب/ الظاهر أو الجوهري الكلّي/ العرضي الجزئي، وفي سمة «الشعرية» التي تميّز النصّ الجبراني. وتلتفت إلى روّاد الحداثة، من الرصافي إلى يوسف الخال ونازك الملائكة، وتتوقّف عند خليل حاوي ومحمد الماغوط ولميعة عبّاس عمارة وفؤاد رفقة وعبد الله البردوني وأبو القاسم الشابي وابراهيم طوقان ومطلق عبد الخالق، إلى طلائع التجديد في مصر (أبو شادي، شكري، ناجي)، ثم تنصرف الناقدة إلى دراسة قصائد محمود درويش، فترى أن هذا الشاعر واقفٌ بين الذكرى والوعد، بين الأفق والهاوية، وأن عالمه حنين واستحضار يمنح الغيابَ وجهَ المثال، يبني للغياب فردوس حضور، عالم حنين يرمّم المعنى الجريح، في إيقاع عبارة وصورة شاسعة، فأسّس درويش قاموساً فلسطينياً وأرسى مخيّلة فلسطينية. ثمّ تلتفت خالدة سعيد إلى بدر شاكر السيّاب في قصيدته «أُنشودة المطر» حيث يكشف الشاعر عن رؤى ومشاهد ويعيد رسم طبيعته واكتشاف صوته ومعناه، وحيث «المطر» رمز انبثق من نسيج النصّ ومن صميم اللحظة الشعرية، فالقصيدة بذاتها وسيط نموّ أو مسار تحوّل وتصاعد، وحيث التداخل بين الإنسان والطبيعة. على هذا النحو تحلّق خالدة في فضاء النقد طال عمرها حيث هي في منفاها الباريسي الهانئ.

* باحث فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا