في خمسينيّات القرن الماضي، وجدت الصين نفسها أمام نقص حادّ في عدد الأطبّاء، مع تمركز أغلب هؤلاء القلّة في المدن الكبرى. هذا النقص، بالإضافة إلى الحاجة لتقديم الخدمات الصحيّة لسكّان القرى والمناطق النائية، ساهم في تأسيس ما عُرف لاحقاً ببرنامج «الأطبّاء حُفاة الأقدام». تأسّس هذا البرنامج عام ١٩٥١، وكان هدفه، باختصار، تأمين الرعاية الصحية الأساسية لسكّان القرى من خلال السكّان أنفسهم. كان البرنامج يستهدف عدداً من المزارعين، الذين لا خبرة طبّيّة أو حتّى تعليميّة لهم، في هذه القرى، ويُدخلهم في برنامج تدريبٍ مُكثّف لمدّة سنة أو أقلّ، يتدرّبون خلالها على تقديم العناية الصحّية الأوليّة للحالات الطارئة والمُزمنة. بعد انتهاء تدريبهم، يعود كُلٌّ منهم إلى قريته حاملاً مسؤوليّة تقديم الخدمات الطبية لأهل قريته. سُمّي هؤلاء المزارعون بالأطبّاء حُفاة الأقدام نظراً لخلفيّاتهم المتواضعة البعيدة عن صروح العلم والتعلّم التقليدية أو كلّيات الطب الحديث.غالباً ما يقدَّم الحديث عن هذا البرنامج فقط كشاهدٍ لتحفيز طلّاب الطب الجدد على الخوض في المجال البحثي كي يُصبح الطبيب مُجدّداً ومُبتكِراً في معاينته وعلاجه للمرضى، لأنّ «أيّاً كان» يُمكنه تقديم الخدمات الطبية الأساسيّة. لا شك في أنّ هذا المغزى من القصّة مهمٌّ وجوهري، فهؤلاء «الأطبّاء حفاة الأقدام» لم يتعلّموا ميكانيزمات المرض ولا الأسباب التي تجعل علاجاً ينفع دون غيره، وهذا يُكبّلهم في مقاربتهم للعوارض والأمراض إذا ما انحرفت قليلاً عمّا تدرّبوا عليه. ولكن، في الوقت عينه، هُنالك جانبٌ آخر لهذه القصّة.
كان دورهم واضحاً ومحدّداً منذ البداية: يتركون أعمالهم الريفيّة البسيطة، يتدرّبون على تلبية الاحتياجات الطبية المحدّدة، ومن ثمّ يرجعون إلى قراهم وعلى عاتقهم مسؤوليّات جديدة. لم يسْعَوا لا لعناوين عريضة ولا لأصفارٍ إضافيّة في حساباتهم. كان تدريبهم مسؤوليّة لا امتيازاً، وهدفهم الخدمة فقط. ولعلّهم لم يطمحوا لأبعد من ذلك لأنّ هذا لم يكن ضمن خياراتهم أصلاً، فالمسار رُسم لهم مُسبقاً، وتدريبهم ضمن البرنامج لا يُؤهّلهم لأكثر من ذلك.
لا شكّ في أنّ مسار «حُفاة الأقدام» هذا ليس جذّاباً لأغلب الأطبّاء، ويوحي بأنّ راسمه يُفضّل الاكتفاء «بالقليل» على المُخاطرة والسّعي وراء «الكثير». ولعلّه يوحي أيضاً أنّ من رسم هذا المسار لنفسه رسمه لعدم قدرته على «أكثر» من ذلك، كأنّ باباً للتطوّر فُتح أمامه لكنّه تجاهله، عن جهلٍ أو نقصٍ في الكفاءة، و«عاد إلى الوراء».
قلّةٌ من يرسمون مساراً كهذا لأنفسهم، خصوصاً أنّ المحيط الاجتماعي والعلمي يورّثنا ويُعلّمنا قائمة المعايير والخيارات التي تجعل من المتعلّم ـــ في أيّ مجالٍ كان ـــ ناجحاً. يفرض مجال الطب، مثلاً، نموذجاً حصريّاً للطبيب «الناجح». شهاداتٌ من جامعاتٍ لامعة، خبرةٌ في العمل في بلاد العالم الأوّل، وظيفةٌ في مُستشفى مرموقة أغلب من يزورها من الطبقة المُخمليّة، وسجلٌّ حافلٌ بالمؤتمرات والأوراق البحثيّة. بل أكثر من ذلك، دائماً ما يكون «طبيب القرية» مدعاةً للسّخرية، أو مثالاً للاستهزاء من المصير المحتمل لمن يفشل أو يعاني أثناء مساره التعليمي. هذا ربّما لأنّه في مرحلةٍ ما، أصبح العلم والتدرّب والخبرة، في نظر كثيرين، مساراً يُشعر صاحبه بالارتقاء عن بيئته بدل أن يُشعره بمسؤوليّةٍ مُضاعفة لخدمة التربة التي غذّت جذوره حتّى نمت أطرافه وتمدّدت.
تحضرني دائماً قصّة محمّد مشالي، «طبيب الغلابة» المصري الذي وافته المنيّة في تمّوز (يوليو) الماضي الذي اختار أن يداوي المرضى الذين لا يملكون ترف اختيار التعاين والعلاج أساساً. اختار أن يمضي عمره في خدمة «الغلابة» الذين لم يكونوا ليعتنوا بصحّتهم لولا اهتمام طبيبٍ تخلّى عن «مسار النجاح التقليدي» ورجع ليُلبّي احتياجات أهل القرى.
قد يرى بعضهم في هذا المسار إفراطاً في الغَيْريّة، ومبالغةً في خدمة الآخرين. وقد يكون فعلاً كذلك، خصوصاً أنّ من يسلك هذا المسار إلى هذا الحدّ وبهذا الإفراط عادةً ما يعيش على هامش الفقر. لكن يمكن لهذا المسار أن يُسلَك بدرجاتٍ متفاوتة، وعلى مدى فترات متقطّعة بين الحين والآخر. وفي ذلك خدمةٌ لا للمرضى فحسب، بل خدمةٌ للطّبيب نفسه أيضاً.
أغلب الدراسات الحديثة التي تتناول الشّعور بالسعادة والرضى وتحقيق الذات في العمل تظهر ارتباطاً مباشراً بالرسالية في العمل وأن يشعر العامل ـــ أيّاً يكن ـــ بأنّ عمله رسالة لا مهنة أو وظيفة. الرسالية هذه ليست مرتبطةً بالضرورة بالمنظومة أو الفكر الدّيني فقط. الرساليّة في العمل هي عندما يشعر العامل أنّه في عمله يُحدث تغييراً إيجابيّاً في مجتمعه. هي، بحسب تعريف الكاتب الأميركي فريدريك بوشنر، عندما تلتقي السعادة العميقة للعامل في مجالٍ ما، بالمجاعة في العالم (ككناية عن الأزمات الاجتماعيّة). على سبيل المثال، في دراسةٍ حول النظرة الرساليّة للعمل وتأثيرها على نفسيّة العامل، وجد كُلٌّ من الباحثين هول وتشاندلر من جامعة بوسطن بأنّ الأشخاص الذين يشعرون أنّهم من خلال عملهم يحقّقون تغييرات إيجابيّة في حياة من حولهم هم أكثر سعادة ورضى عن عملهم مقارنةً بأقرانهم الذين لا يشاركونهم هذه النّظرة.
بالرّغم من تنوّع الأماكن والمواقع الّتي يمكن أن تُشعر العامل برساليّة عمله، إلّا أنّ المؤكّد أنّ قطعةً أو مسماراً في آلاتٍ رأسماليّةٍ ضخمة ليس واحداً من هذه المواقع.
كتبتُ عن الطبّ لأنّه مجالٌ مألوف ولأنّني ما زلتُ أتمرّن فيه، إلّا أنّ ما سلف لا يقتصر على الطّبّ فحسب، بل ينطبق على كلّ مجالات العلم والعمل. أكتب وأعلم أنّ التّنظير ترفٌ سهل، وأنّ استعراض الفضيلة في نصٍّ من وراء شاشةٍ أسهل بل هو مُغرٍ أيضاً. أكتب وأدرك أنّ لكُلٍّ ظروفه ومتطلّباته ووسائل مختلفة لتلبيتها، وأنّ نزف الأطبّاء ـــ وسائر الاختصاصيّين ـــ حتميٌّ ومؤلم، خصوصاً مع خسارة كثر لجنى أعمارهم، ودفعهم كلفة الفساد والنهب والسّرقة من مدّخراتهم ورواتبهم ـــ وحتّى دمائهم ـــ في ظلّ ظروفٍ قد تكون من الأصعب على هذا البلد منذ زمن. أكتب وأنا مُدركةٌ أنّ الأفق يزداد ضيقاً، خصوصاً على الطلبة الجامعيّين الذين بات مصير كثيرين منهم مجهولاً ومخيفاً. أعي أيضاً، للأسف، أنّ نفس الأيّام المُنهكة الّتي تفرض علينا جميعاً التّمسّك بأحذيتنا والسعي وراءها خارج حدود هذا البلد، هي أيضاً تجعل النّاس أكثر حاجةً لـ «حُفاة الأقدام» في مختلف المجالات أكثر من أيّ وقتٍ مضى. أكتب لأقول إنّه ربّما يجب علينا أن نخلع أحذيتنا، لفترات متقطّعة بين الحين والآخر، ونمشي حفاة الأقدام، علّنا نتذكّر ونخدم ونتّصل بالتّربة التي أتينا منها، مجازيّاً على الأقلّ.