I - الثلاثاء 4 آب أُعلِنَتْ بيروت مَدينة منكوبة: الأمكنة التي ضربها عصف النكبة
1- تناولت وسائل الإعلام، بكثير من التفصيل، فعل النكبة التي أصابت مدينة بيروت، في 4 آب 2020. عدَّدت المناطق التي أصابتها النكبة، وتناولت تفاصيل العصف الذي ضرب المباني. وأبدت اهتماماً خاصَّاً، بالمباني التراثيَّة في المناطق التي تمدَّدت فيها بيروت باكراً، خارج سورها، مثل طريق طرابلس في الجميزة – شارع غورو، وفي مار مخايل، وفي شارع أرمينيا، وفي طريق النهر. كما أضافت إلى الاهتمام بالتراث الأصيل، اهتماماً مماثلاً بمباني الحداثة الأولى، التي بنيت في الخمسينات من القرن الماضي. ومن أبرز القيم المتعدّدة التي تختزنها هذه المباني، ومنها، القيمة التاريخية، والقيمة الجمالية، والقيمة المعمارية، بانتمائها إلى حداثة راعت ظروفنا الاجتماعية والمناخية. وهناك القيمة المدينية، إذ تجانست مع السياق العام المبنيّ، حيث بُنِيَتْ، وأكمَلت النسيج المدينيّ، فلا مجال للشعور بالغربة أو بالافتعال.

2- المسح الجّديُّ لفعل العصف، قامت به نقابة المهندسين. فقد أعلنت النقابة حالة طوارئ، لمسح الأبنية المتأثرة بالانفجار كافة للوقوف على وضعها الإنشائي، وحجم المخاطر التي تمثّلها على السلامة العامة. وقد تطوَّع لهذا العمل أكثر من ألف مهندس، تمَّ توزيعهم على أكثر من خمسين فرقة كشف. وكانت النقابة تُصدر أسبوعياً، تقريراً للمسح الإنشائي للأبنية المتضررة. وقد حدَّدت هذه التقارير، المناطق التي ضربها عصف الانفجار النكبة، على الشكل التالي:
• منطقة المدوَّر.
• منطقة الرميل. وفيها منطقة الجميّزة – شارع غورو، ومنطقة مار مخايل، وشارع أرمينيا، وطريق النهر، حتى الجسر.
• منطقة الصيفي.
• منطقة الأشرفية.
• الكرنتينا، وزقاق البلاط، والخندق العميق، والباشورة...
3- تولَّت المديرية العامة للآثار، مهمَّة المسح للأبنية التراثية الذي شارك فيه، مركز الترميم في الجامعة اللبنانية، بفريقٍ من أربعين مهندساً من خبراء الترميم. قامت الفرق بمسح للمناطق الأكثر قرباً من المرفأ، وللمناطق الخلفية البعيدة. خلُص هذا المسح، إلى تحديد عدد المباني التراثيَّة في المناطق المذكورة.
4- ما يتمُّ تداوله، أنَّ لمبنى إهراءَات الحبوب، بجداره الخلفيّ الصامد، دوراً كبيراً في تحديد الأماكن، التي طالها عصف الانفجار النكبة. لقد كان لهذا الجدار الصامد، دور في حماية «نصف بيروت» تقريباً. إذ لم يتعَّد شعاع العصف خلفه، الـ 500 متر، في حين أن شعاع العصف أمامه، بلغَ سبعة كيلومترات تقريباً. طالَ العصف بذلك،
المناطق القريبة والنائية، في تلة الأشرفية، مثالاً.

العصف يضرب المساكن والشارع التجاري


التراث، وناطحات السحاب الوقحة


IIـــ عصف الانفجار النكبة، في تراث الجمَّيزة – شارع غورو
1- اجتزنا قوس النصر، وقد صنعناه من الغار والأزهار الملوَّنة، يربط بين المبنيين البوَّابة، ويرمز إلى الصدفة التي ساعدت المنطقة، كي تتغلَّب على جرَّافات «شركة الهدم والردم، سوليدير». اجتزنا البوَّابة بقوسها، ودخلنا منطقة الجمَّيزة – شارع غورو. يُسحرنا عند الدخول، في الواجهة الجنوبية، الامتداد الطويل للمبنى التراثي ذي التأليف الفريد، الذي تحدثنا عنه، في القسم الخامس من هذا النص. مفردات قليلة منتقاة، ترسم نموذجاً فريداً في التأليف المعماريّ. لقد أدهشني مثيل له رأيته، في آخر شارع القنطاري. قصر تقي الدين الصلح كان هناك. زرته قبل أن يهدم. كما سحرتني واجهة مبنى مماثل، في شارع بلس، قبالة السفارة السعودية.
2- جدران المبنى الخارجية سليمة. لا تشقُقات ظاهرة فيها. الحجر الرمليُّ منتظم، موحَّد القياسات، يوحي بالصلابة وبالثبات. مظاهر مطمئنة، لا تُقنّع عصف النكبة. إحدى الشرفات الرخامية محطَّمة. زجاج المحلات التجارية محطَّم بمعظمه، أو أنّ الأبواب مقفلة. والأبواب الحديدية الجرارة، اقتلعت في المبنى المقابل. لا زجاج في النوافذ، وفي مجموعات الأقواس. وحدها الأعمدة الرخامية الأنيقة، بقيت في جزءَي المبنى. يندلق سواد الداخل المعتم، من مجموعة الأقواس الثلاثة، فتبدو بسوادها القاتم، كأنها أفواه جحيم، يبصق حِمَمَهُ على الأرصفة. المشهد العام، في الواجهة الجنوبية، موحش. كأنَّه مهمل، مهجور، لم يسكنه أحدٌ، لسنوات.
في الواجهة الشماليَّة المقابلة، الامتداد مماثل، والتأليف المحوريُّ حول الدرج يتكرَّر. والمشهد في العمارة، يشير إلى أنّ عصفاً أصابها، فاستُبدِل الحجر الرمليُّ، بحجر من الخرسانة. لا حياة في هذا المجال الفسيح. في الطرف الشرقيّ من الطابق الأوَّل، في هذه المنشأة الطويلة، وحده، رجل يجلس على كرسيّ، في شرفة ناتئة، فوق الرصيف.
3- في واجهة الجمَّيزة – شارع غورو الجنوبية وبعد هذا المشهد المذهل، يقطع النسيج التاريخي، مبنى حديث من الخرسانة المسلحة، غير آبه بهُوية الأمكنة. المبنى مؤلَّف من طابق أرضيّ مرتفع، تعلوه سبعة طوابق. الأسقف الخرسانية ظاهرة في الطوابق السبعة، تربطها عناصر خرسانية عامودية، تقسّم الواجهة إلى خلايا، متساوية، متتابعة، أفقياً وعامودياً. الهيكل الخرسانيُّ متين لم يطَله العصف. القواطع المتكررة، متينة هي الأخرى. كل الخرسانة الظاهرة في واجهات المبنى، حافظت، على أشكالها ومواقعها، في الوظيفة، وفي الدلالة، على الهوية المكتبية للمبنى. طال العصف زجاج المبنى، من الطابق الأرضيّ، حتى سقف الطابق السابع. لا زجاج في معظم خلايا الطوابق العليا. ولا قواطع داخلية، أو أسقف مستعارة معلَّقة. كل ذلك أصبح حطاماً، تراكم في أرض المكان. المبنى عار في داخله.
لا ناس في هذه الأمكنة، ولا حياة. ثمة إنارة في خلية وسطية. خلاف ذلك، لا شيء غير الوحشة والدمار، والموت.
الوضع في الطابق الأرضيّ من المبنى أكثر سوءاً. فرن صغير يعمل في وسط الطابق، وفي الباقي كل المكوّنات اقتُلِعَتْ. الهيكل الحامل من الألمنيوم الأسود، والأسقف المعلقة، وكل ما يختبئ خلفها من تجهيزات. الجدران الحفيفة والأبواب والمتبقي من الأثاث، تكسَّرت كلّها تحت الأنقاض.
لا صعوبات تقنية في الترميم. ولكن الترميم مستحيل. لأن المطلوب الفعلي، هو إعادة إعمار كاملة.
4- الفجوة الأولى، في الواجهة الجنوبية، بعد المبنى الخرساني الحديث، تقودنا إلى أمكنة الجميزة الخلفيَّة، إلى شارع مارون النقاش. كلُّ المباني، مختبئة محميَّة، لم يصل إليها العصف، وسياق الحياة فيها بقي كما كان عليه. وما يهمُّنا هو الواجهتان الشرقية والغربية للفجوة. نجد هناك عمارة الحداثة الأولى، عمارة الخمسينات أحياناً، وعمارة كولونياليَّة أحياناً أخرى. تقوم في المقابل عمارة برجية، بارتفاع يصل إلى خمسين متراً. إنها عمارة قانون البناء الأخير، عمارة القرن الحادي والعشرين.
بعد الفجوة، مبنى تراثي هجين، خالٍ من كلّ القيم التاريخية والجمالية والمعمارية والمدينية والرمزية. وهو مؤلَّف من طابق أرضيّ وأربعة طوابق. كل طابق يحكي لغة معمارية مختلفة، ولا يمكن أن ننسُبها لأيّ نموذج تراثي معروف. ضرب عصف النكبة المبنى. حطّم زجاجه. في الطابق الأرضي، إقفال محكم لكل المحال التجارية، يشير إلى أن لا عودة قريبة. استُبدِلَ زجاج الطوابق بألواح خشبية، أو بستائر من النيلون النيلي الزرقة. لا دلالة على وجودٍ إنسانيّ خلف الستائر. لا أثر للتشقَّق، في جدران المبنى الحاملة. تبدو الجدران سليمة في كل الطوابق، والشرفات الناتئة فوق الرصيف، متينة تبدو أيضاً. الإقفال لكل الفتحات، نوافذ، أو أبواب محلات تجارية، أو أقواس، لا يدل على أن ترميماً يطلُّ في الأفق.
5- قبالة الطريق إلى شارع مارون النقاش الخلفيّ، تمتد طويلاً، مدرسة القلب المقدس للرهبان الكاثوليك «الفرير»، والكنيسة. تُطلُّ الكنيسة على الجمَّيزة – شارع غورو بشكل نصف أسطواني. خرسانيَّة، مزيَّنة، مشغولة الغلاف. مجموعات من ثلاث نوافذ، نصف دائرية في أعلاها، ونوافذ صغيرة نصف دائرية في أعلاها أيضاً، تتتابعُ بانتظام وسط جدار الكنيسة. أما المدرسة، فقلبها بابها الشاهق الارتفاع، بالعقد الخرسانيّ نصف الدائريّ الذي يعلوه. تمتدُّ المدرسة بعد الباب إلى الشرق، بواجهة طويلة، تحدّد لغتها المعمارية، مجموعة الفتحات المزروعة بانتظام في الطابقين، الأرضي والأول. فوق هذه الكتابة، طابق ثالث بجدار منحنٍ، وفتحات عامودية. لم يترك عصف النكبة أثراً في المدرسة. وحدها، بعض النوافذ الصغيرة، في واجهة الكنيسة قد تحطّمت.
6- يُكمل الواجهة الجنوبيَّة للجمَّيزة – شارع غورو، مجمَّع مبنيُّ كولونياليُّ، استوحى التأليف التراثيَّ العريق، الذي توقفنا عنده. مبنيان من طابق أرضيّ وأربعة طوابق علويَّة، يلتصقان بدرج مشترك، هو محور التأليف. هيكل المبنى من الخرسانة المسلحة، مزيَّن، مطليُّ بلون أخضرٍ خافتِ الحضور. ما يهمُّنا، هو أن عصف النكبة قد أصاب المبنى بقوة. الهيكل، قاوم، والشرفات الناتئة، قاومت أيضاً. إلا أن النوافذ والأبواب، وزجاج الفتحات الثلاث في محور كل مبنى، اقتلعت في كل الطوابق. لا زجاج، ولا أبواب، ولا ستائر تسد الفتحات. كل الداخل الفارغ مشرّع، وكل ما كان يصنع مجالاته الداخليَّة، قد اقتلعته موجات العصف. إنَّه الفراغ الميت. وما هو أكثر إيلاماً، هو أنّ العصف قد ضرب بقوة في الطابق الأرضي، حيث تتواصل الحياة التجارية في الشارع. أزيلت عمارة الطابق الأرضي كليّاً، باستثناء الهيكل الخرساني الصلب الحامل. لا مكان للتجارة في المبنى.

العمارة الكولونيالية الفارغة بألوانها


إقتُلع الحجر الرملي وسد الفجوات الحجر الخراساني

في المحصّلة، صمد الهيكل ونُزِعَتْ كل مكونات العمارة الأخرى. لا ترميم في الأفق. إنها عملية إعادة إعمار لمبنى هيكله موجود.
يتواصل النسيج المبني، في واجهة الشارع الجنوبيَّة. مبنى تراثيٌّ من طابق أرضيّ وطابق أوَّل. يطلُّ على الشارع بحجره الرمليّ العتيق. النصف الأول للمبنى مهجور. أما النصف الثاني، قبالة كنيسة ومدرسة القلب المقدس، فهو كنيسة مار يوسف التي ترمَّم الآن.
7- الطريق الآتي من ساحة التباريز، يصل إلى الجميزة – شارع غورو، بمحاذاة كنيسة مار يوسف. بمحاذاة هذا الطريق شرقاً، يقوم مبنى حديث. هيكله من الخرسانة المسلحة، وغلافه من الزجاج. يقطع المبنى، للمرة الثانية، تواصل النسيج التراثي في الواجهة الجنوبية، لشارع غورو – الجميزة. عصفت النكبة بالمبنى عصفاً شديداً. العصف لا يقوى بالطبع، على الهيكل الخرساني، الثابت في كل الطوابق. إنها حالة المبنى الحديث الذي سبقه. لا يصنع الهيكل الإنشائي بكلّ زينته، عمارةً. إنه جسم العمارة.
• واجهة المبنى الزجاجية مدمَّرة، أو شبه مدمرة كلياً.
• القواطع الداخلية في الطوابق، وسائر التجهيزات فيها مقتلعة.
• الطابق الأول في المبنى مدمَّر كلياً، فيه أرض وله سقف. ولا شيء حول استعمالاته قبل العصف.
• العصف في الطابق الأرضي قاسٍ ومدمر. قسم في وسطه يعمل. إلّا أن الطرفين مدمران.
• القسم الشرقي من الطابق الأرضي، ركام متراكم في أرضه. هياكل من الألمنيوم حاملة للواجهات، أسقف معلقة، أجهزة إنارة، قواطع خفيفة... إلخ.
• قسمه الغربي محطَّم، معلَّق بين السقف وبلاط الأرض.
• لا ترميم أجزم مرة أخرى. إنها عملية إعادة إعمار حول الهيكل وزينته.
8- بعد المبنى الحديث، فجوة عميقة، تحدُّها شرقاً مبانٍ تراثية. وتُطِلُّ في عمقها على برجين ينطحان السماء. ارتفاع أحدها يتعدَّى الخمسين متراً.
9- ضمة كبيرة من المباني التراثية، تلي هذه الفجوة. تبدو المباني في الواجهتين، الجنوبية والشمالية، غير متصدّعة، في مظهرها الخارجي. لكنها بالتأكيد فارغة، ومهجُورة. من بينها مبنى تراثي من طابق أرضي وطابق أول. نقرأ في الطابق الأول، عمارة بيت الليوان الآتية من بيروت المسوَّرة. ضرب العصف بيت الليوان. كُسِر القوسُ الواسِعُ، الذي يحدُّ الليوان لجهة الشارع. طار سقف المنزل. حطام الداخل، يندلق من فوهة الليوان فوق الشارع. نماذج أخرى تليه، من أرضي وطابقين، أو طابق أرضي وثلاثة طوابق.
مفردات تراثية نجدها في واجهتَي الشارع الجنوبية والشمالية. كُسِرَتْ الشرفة الرخامية هنا، وتحطَّم بيت الليوان في الطابق الثالث هناك. سقط السقف التراثي المعلَّق، المشغول بحرفية نادرة. وتحطَّم الهيكل الذي يحمل السقف القرميدي، وتناثر القرميدُ مع تردُّدات العصف. تشقَّقات في الجدران الحاملة، نراها في الطوابق العليا.
10- في الطابق الأرضيّ، من النسيج المبني التراثيّ في الواجهتين، تكثر المقاهي الفسيحة، وزوايا اللقاء الدافئة. تكثر المطاعم الفخمة، وحوانيت الأكل السريع. تكثر الحانات. وتكثر أماكن السهر.
لقد ضرب عصف النكبة هذه المجالات المميَّزة. تقف مشدوهاً. مجال مفتوح، بلا جدار وبلا باب. أسودٌ عميق في عتمته بارٌ. وفي سقفه بقايا أقنية التكييف. قبالته، مطعم فخم حُطّم كل زجاجه، وحَجَبت واجهاتهِ ستائرُ قاتمة، مشدودة في أطرافها. يسود المناخ المعتم هذا، في واجهتَي الشارع. تسير على الرصيف، فيرافقك، لا ينفعك الهروب إلى الرصيف المقابل. فالمناخ المماثل مخيّم بكل سواده. تتطلَّع إلى الأعلى. الشرفات الرخامية بعضها محطَّم، وبعضها الآخر سليم. ولكن لا أثر للحياة خلف الفتحات. لا ضوء، ولا حركة. إنه الموت الموصوف.
11- موتٌ حقيقيٌّ، يتكرَّر قبل درج مار نقولا، وبعده. تتأكَّد هوية الأمكنة هناك، بنماذج متتابعة من العمارة التراثية. نُسَرُّ بها. تعيدُ إلى نفوسنا الغبطة. لا يلبث عصف النكبة أن يخطفها منا، عندما نراه يضرب بيت الليوان، الكائن في الطابق الثاني، من مبنى تراثي من طابق أرضي وطابقين. ضرب العصفُ القوس المزيّن، في أعلى الواجهة. كُسِرَ القرميد، واقُتِلعَ السقفَ. وتكوّم الركام، وقد بصقه الداخل المدَّمر إلى الخارج، عند الواجهة، جدار الشارع.
هل من الضروري هنا أن نتحايل على واقع العصف وقسوة نتائجه؟ هل من الطبيعي أن نستمرَّ في الوصف، دون التوقُّف عند مجموعةٍ من المعطيات الفجَّة؟
• الترميم صعب.
• القيامة من تحت الركام حلمٌ.
• عودة الناس إلى الأماكن المهجورة، تبدو بعيدة... بعيدة.
12- نموذج مبنى آل داغر، ينقذنا وإن جزئياً من هذه القتامة. الحديقة، والدرج الخارجي، وأعمال الترميم، كلُّها مؤشّرات على أنَّ الحياة، لا تزال هناك، وإنْ في أماكن محدودة. لقد ضرب العصف المنزل في طابقيه، خاصة في الطابق الأول. كسر الشرفة الرخامية الواسعة. حطَّم المجالات الداخلية، وقذفها إلى الواجهة. كسر القرميد، ونثره في سماء المدينة. لكن الإصابة غير مميتة. والترميم جار.
13- عند طرف الشارع، وقبل التفافة طلعة العكاوي، تُطلّ كلية «الثلاثة الأقمار الأرثوذكسية». صرح عريقٌ، طاله عصف النكبة. الكليَّة في حالتها راهناً، جدار من الحجر، منتصب كأنه ديكور في مسرحية، تخترقه الثقوب متماثلة حول محوره، حيث المددخل الرئيس. لا سقف، إذ أن العصف قد اقتلعه. لا جدران في الداخل، ولا تنظيم للمجالات. دمَّر العصف كلَّ ذلك، رماه عبر الثقوب على الرصيف. امتلأت الأدراج والممرات بكلّ ما اقتلع. غابت التجهيزات التعليمية، تحت الركام الذي ملأ الفناء الداخلي.
ترميم؟ وهل يمكن أن يرمّم مبنى بهذه الأهمية؟ انطلاقاً من الجدار الحجري المطلّ على الشارع؟ ستتمُّ المحافظة على الجدار، الشاهد على عظمة المنشأة بالتأكيد. وسيعاد إعمار المبنى كما كان، أو معدَّلاً وفقاً لحاجات المؤسسة.
14- تسبق «كلية الثلاثة الأقمار الأرثوذكسية»، وفي واجهتي الشارع، ضمة رائعة من المباني. منها الكولونيالي، ومنها ما يعود إلى عمارة الخمسينات من القرن الماضي.

كولونيالي صمد


• مفردات الواجهات في العمارة الكولونياليَّة، لا تتغير في الجميزة – شارع غورو. معظمها مستوحى من البيت البورجوازي ذي الأقواس الثلاثة. في النوافذ، وفي محور الواجهة، وفي الشرفات الناتئة. تضاف هنا الألوان الخجولة، تزيّن الواجهات، وتُضفي عليها طيفاً من الفرح.
• أما المفردات، في تيبولوجية مباني الحداثة الأولى، فهي موَّحدة في تنوعها. شرفات ناتئة، الدرابزين فيها، يتجسَّد في مرتفع خرسانيّ لا فتحات فيه. النوافذ خشبية عامودية. أباجورٌ من الخشب الملوَّن، بالأحمر أو بالأخضر. لا تماثُل في الواجهات، ولا محور لها. يحدّدُ أمكنةَ الفتحاتِ في الواجهة، دورها في خدمة نموذج المسطح. الذي غالباً ما يحدّد موقع مجالات الحياة اليومية، في الواجهة على الشارع، ويرمي الوظائف الأخرى، كالمطبخ وغرف النوم، في المجالات الخلفية، أو الجانبية.
• الضمة بمجملها جميلة. لا تناقض بين الكولونيالي والحداثة الأولى. ربما استطعنا الكلام عن نمط من التناغم. في الحالتين، للمباني هياكل خرسانية حاملة، صمدت بوجه العصف. اقتُلِعَ شباكٌ، أو كُسِرَ بابٌ، أو سقط سقف معلَّق. فوق الأثاث، وربما فوق الديكور، والتجهيزات المحطَّمة.
الضمة المهجورة، وقد غادرها ناسها إلى أماكن أخرى، السكن فيها أكثر راحة وأماناً.
• النظرةُ إلى الواجهات، تُظهِرُ أن هناك من يرمّم خاصة في عمارة الخمسينات من القرن الماضي. فالملكيات واضحة، وبدلات الإيجار واضحة أيضاً، والترميم تقنياً، سهل ومتاح. يرمّم ساكنٌ، الطابق الذي يسكنه ملكاً أو استئجاراً، بالاتفاق مع سائر الساكنين، أو يستأذنهم ليرمم الطابق أو الشقة التي يسكنها. ثمَّة مظاهر شبه فردية، لهذا الجزء من المنطقة الطويلة، الجميزة – شارع غورو.

III ـــ في الجمَّيزة – شارع غورو: التدعيم، والترميم، وإعادة الإعمار، وعودة الناس.
هل من قيامة...؟ قريبة...؟
في خلاصةٍ مكثَّفةٍ لهذا النص الطويل، أكتب:
1- تمتدُّ منطقة الجميزة – شارع غورو، بين بولفار جورج حداد والتفاف طلعة العكاوي. الشارع شبه مستقيم، جدار الشارع على الجانبين موحّد الارتفاع تقريباً. عمارته متجانسة، ممتدة تاريخياً على ما يقارب القرنين، كما ذكرنا. في الجدار الجنوبي للشارع ثلاثة أبراج حديثة، تخرق التجانس العام، وتخرّب التناسق. إنها مباني مكاتب، لا شرفات فيها. وفي الجدار الجنوبي أيضاً، طرقات أو فتحات، تطلُّ على عمارةٍ برجية، تقوم في الأماكن الخلفيَّة، أو تنطح السماء فوق تلة الأشرفية.
نجدُ في الواجهة الشمالية، العديد من العمارات السكنيَّة البرجيَّة. تُخَرّبُ التناسق مرة أخرى، وتبالغ، بشرفاتها العريضة، وبواجهاتها المتحذلقة، بالإساءَة إلى تناغم العمارة، وإلى تناسق النسيج المبني.
2- إذا سرت على أحد الرصيفين، فستكون وحيداً. فلا مارة في الشارع ولا متنزّهون. السوق التجاريُّ، محطَّم كلياً. فهو أفواه فاغرة، تختبئ خلفها مجالات معتمة، فارغة، كان الصخب الذي شكا منه السكان دوماً، يملؤها قبل النكبة. أو أنها مقفلة من الخارج، بألواح خشبية تدلُّ على اللاعودة. طُلِبَ من صاحب حانوت صغير يعمل هناك، قنينة ماءٍ وقنينة عصير، فأجاب، لا ماء ولا عصير لديَّ، لأن لا وجود لأحد في الشارع ليشتريه. في الجدار الشماليّ للشارع، فجوات متكرّرة، تُطلُّ على عمارات برجية وقحة. يتعدَّى ارتفاع إحداها الماية متر. وطوابقها، وقد عددتها، بلغت اثنين وثلاثين طابقاً.
كلُّ الجهود يجب أن تُبذل، وكل النصوص القانونيّة، يجب أن تُستعمل للحؤول دون طرد السكان نهائياً


3-وفي المساء، عند سقوط العتمة هناك، تشتدُّ الظلمة، فتخاف إذا سرت وحيداً. فلا إنارة ولا ضوء خافت، ينبعث من أحد الشبابيك المقنَّعة بالنيلون الملوَّن. تسير. تستمر في سيرك، فتزداد شعوراً بالوحدة، مع ازدياد العتمة، وغياب أي دلالة على الحياة. السليم من الأبنية التراثية فارغ. وفي الأبنية الكولونيالية الملوَّنة الزاهية، لا أحد أيضاً.
إذا كانت الصدفة، قد حمت تراث الجميزة – شارع غورو، من جرَّافات شركة «الهدم والردم سوليدير»، فلم يكن لأي صدفة القدرة، على حماية ناسها من عصف النكبة. لقد نزحوا جميعاً. لا حياة في الأمكنة. الوحشة تلفُّ المنطقة بكاملها. الفراغ يملأ البيوت. ووقع الفراغ في الظلمة، جهنميّ كارثيّ.
4- كل المباني قد اقتُلعَتْ أحشاؤها. ملأ الركام النوافذ والشرفات. وملأت الحجارة وبقايا الجدران الداخلية، الأرصفة. الهيكل الخرساني ثابت في العمارة الكولونيالية. وفي المباني التراثية، معظم الجدران من الحجر الرملي الحاملة، سليمة. معظم الأسطح القرميدية نثره العصف بعيداً. وكثيرة هي الجدران الحاملة المتصدعة في أعلاها. لا ترميم قلنا. بل تدعيم وإعادة إعمار. ولا نرى جهة تقوم بذلك الآن. لا في الدولة ولا خارجها. وتُوزَّع المساعدات، إذا وجدت، على جمعيات وهمية، تزعم إمداد النازحين بالسكن البديل وبالطعام. وربما ببعض الملبس أيضاً.
لا ترميم إذاً، وإعادة إعمار مكلفةٌ، لا نرى لها بداية قريبة.
5- الأماكن تقعُ في نطاق المنطقة الارتفاقية الثانية. عامل الاستثمار الأقصى خمسة، ومعدل الاستثمار السطحي في الطوابق 70%. والحد الأدنى للإفراز مئتان وخمسون متراً مربعاً.
سيندفع رأس المال العقاريّ الجشع إلى شراء العقارات، وضمّها، ليملك مساحة تصل إلى ألف متر مربع (أربعة أضعاف الحد الأدنى للإفراز). أو تتعدَّاها، ليبني برجاً من ثلاثين طابقاً، كما هي الحال الآن في الرميل الملاصق.
• لا ترميم.
• إعادة إعمار صعبة ومكلفة.
• هجوم لرأس المال العقاريّ الجشع.
كلُّ الجهود يجب أن تُبذل. وكل النصوص القانونيّة، يجب أن تُستعمل للحؤول دون طرد السكان نهائياً. واستبدالهم، بعد زمنٍ، بمجموعاتٍ من الأثرياء يعاد البناء لهم، في التراثي القائم أو في أبراج فاخرة.
6- هل من عودة في الزمن القريب؟
لا أعتقد. قلَّة تسمح لها أوضاع مساكنها الإنشائية، وأوضاعها المالية. قلَّة، ستعود. وقد عاد بعضهم في أماكن محددة. ولكن؟ ولكن هل من قيامةٍ...؟ قريبةٍ...؟ لا أعتقد.
هذه ليست حالهم. إنها حالة المدينة بكاملها. المدينة ماتت. ولا قيامة قريبة لها.

* معمار لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا