مؤمنة أن الكتابة تتجاوز الموهبة التي هي جزء أساسي في الكتابة إلى المراد قوله بطريقة أدبية مميّزة. هي فعل امتلاء سواء أكان هذا الامتلاء بالقراءة أم بالتجارب، والتجارب هنا بالنسبة إلى الإنسان الموهوب لا ترتبط بالعمر بقدر ما تتعلق بقدرة الكاتب الرهيبة على استنطاق الجماد. وهذا برأيي ما نجح في تحقيقه الروائي الفلسطيني رائد وحش في روايته الأولى «عام الجليد» (منشورات المتوسط ـ 2019). فهو أراد أن يكسر جدار البلادة الذي صنعه بعض الروائيين، فهم خلقوا هوة أدبية بين العمل الذي يحفّز الخيال والعمل الذي يجعلك جامداً بل ومرات يفكر مكانك بدل حثّك على التفكير. استطاع رائد وحش في هذا العمل أن ينزع عنه ثوب الشاعر ببراعة لافتة، ويتحول إلى روائي متمكّن. كتب ما جعلنا كقراء نقف مشدوهين. وسأستعير من الشاعر الفرنسي بول دوميني ما قاله في هذا الصدد: «الشاعر يصير روائياً عبر تعطيل الحواسّ كلها، تعطيلاً طويلاً، عظيماً وعقلانياً».
هذا ما سعى إليه رائد تحديداً في «عام الجليد» الذي يجسد من خلالها رحلة الإنسان في هذا العالم ومراحل اكتشافه لنفسه من خلال سعيه لبلوغ الحكمة التي لا يمكن أن تتأتّى إلا من خلال التجارب «فمن أوتي الحكمة أوتي كلَّ شيء».
يسرد لنا في رواية «عام الجليد» قصة طفل صغير في طريقه لصنع حكمته في هذه الحياة، لكن شاءت الأقدار أن تثنيه الحرب عن بلوغ حكمته المشتهاة وهو في أوجه لإدراكها. من الواضح أنه مهما اجتهدنا لبلوغ الحكمة، بقدر ما يهدم البشر السبيل إليها من خلال الحروب، فالحكمة والحرب بما تحمله من دمار لا يمكن أن تجتمعا.
عندما تقرأ «عام الجليد»، تشعر في البدء أنك في أجواء رواية «الأمير الصغير» من خلال تلك الروح التي بثّها الروائي في الطفل سبارتكوس حين تناول حياته. كما أنه أضفى عليها السرد العجائبي الذي أعادنا إلى عوالم «أليس في بلاد العجائب» الغرائبية، حين سرد مشاهد الطفل في المزرعة، فيما يبدو أن الجزء الذي يتناول اللجوء هو محاكاة لرواية 1984.
تظهر لنا الرواية مدى تمكن رائد في صناعة أدب مختلف يتجاوز المتعارف عليه، لا يشبه الروايات التي تتناول المجتمع ومشاكله من الخارج، بل رواية تخاطب الإنسان من الداخل، ذلك الإنسان الذي يهرب من حقيقته ليحاول أن يرسم حقيقة على مقاس خياله. وفي هذه الرواية التي تلعب على وتر الخيال لتصب جام غضبها على الواقع، نجد أنفسنا في لعبة أدبية تأسرنا بلغتها وتشد بخيالنا إلى عالم أراده رائد لمن خذلتهم الحياة. كما أنه استطاع أن يقرب الإنسان من الطبيعة والحيوانات التي أصبحت شبه منعدمة في الأعمال الروائية وحلّت محلها التكنولوجيا. فالملاحظ أن ما أحدثته جائحة كورونا في العالم جعلت الإنسان يتصالح بعض الشيء مع الطبيعة.
الرواية في المجمل هي محاولة رصد للذات البشرية التي شعرت أنها اقتلعت من جذورها وكل ما يربطها بالحياة، رواية اللجوء الذي يعيشه الإنسان بكل تفاصيله ويتخطاه إلى اللجوء الروحي، وهو الأصعب برأيي لأنه يجعل الإنسان يعيش نوعاً من العزلة والوحدة اللتين تنشآن من الفقدان اللامتناهي.
نكتشف في الأخير أن بطل الرواية هو قطعة جليد، قام بطريقة ما بنوع من الثورة الفكرية، لكن الحرب أبادت تلك الثورة وحوّلتها إلى كائن مشوّه فقد بوصلة ذاته وهذا حال كل من تُقتلع جذوره رغماً عنه، فلا يمكنه أن يزهر في غير مكان، فاللعنة التي أصابت روحه ستطارده في كل مكان.
رواية فلسفية، فانتازية ديستوبية النهاية، لا تخلو من السرد الحكائي الذي يجعلنا كقراء نستمتع بها ونقرأها بشهية. جسّدت «عام الجليد» ثنائية الحكمة والحرب بلغة الشاعر وإبداع الروائي.