تفتح قراءة الشاعر زكريا محمد الباب للنظر أكثر داخل تجربة شعرية طويلة ومتميّزة، خاضها الشاعر الفلسطيني منذ مجموعته الأولى «قصائد أخيرة» عام 1981. في كل مجموعة جديدة، تتضح الإضافة الجمالية لعالم زكريا الشعري الذي أعلن مبكراً ضجره من نتاج الستينيات ونحت طريقاً أخرى له في عالم الشعر. تأتي مجموعته الجديدة «زراوند» («دار الناشر» في رام الله، و«دار ميم» في الجزائر ــ 2020)، لتسرد علاقة طويلة للشاعر الفلسطيني مع الشعر، وتقول أشياء كثيرة عن تجربة شاعر آتٍ من أرض أخرى ليطل من فلسطين على العالم بلغة مختلفة. هي قصائد تلهمنا بالحديث عنها، فندخل بمحبة لقراءة عالم شعري بدأه زكريا منذ مجموعته الأولى بالسؤال عن جدوى الشعر، حتى قاده الشعر إلى غابة «زراوند» التي تضمّ كل تأملاته. تتدفّق اللغة في سرد متقطع لعالم مليء بالأشياء والنباتات والحيوانات والأسئلة في قصائد مذيّلة بتواريخها، لكن لكل قصيدة تاريخها الخاص المختلف الذي يجعلها تتقدم عن الأخرى، فيتحرر الشعر من عناوينه ومن شكله السائد أيضاً ليكتفي بلحظته الزمنية. هذا ما فعله زكريا محمد في مجموعتَيه السابقتين «كشتبان» و«علندى»، حيث يبدو الشعر أحياناً مثل قصة تخبرنا بشيء ما، لكنها تفاجئنا بغموض ومعنى ما، نلتقطه ونتأمله ونتابع عثورنا على شيء آخر في اتجاه آخر. أشياء كثيرة تحدث وأسئلة كثيرة تمر كأنها حوادث عادية في بساطة تريدنا أن نرى عمقها. الأشياء هنا مألوفة وحميمة، «عيب على الألم أن لا يترك وراءه ولو خدشاً صغيراً يذكر به» هكذا يتحدث زكريا عن الألم، يقرّبه نحونا كإنسان عادي وهذه طريقته في إعادة تعريف الأشياء والمفاهيم، فيصبح الشعر دليله لإعطاء معانٍ أخرى للأشياء في معجم العالم.في «زراوند»، نحن ندخل معجم زكريا الكبير الذي نرى فيه «الليل قطة أليفة»، والنهار «كلباً شريداً»، و«الحياة بصلة»، لكن «الموت بصلة» أيضاً. تتعدّد المعاني وتتسع حيث الأنا أيضاً متعددة. يقول زكريا: «أنا تمثال رخام»، ثم يعود مرة أخرى ويقول: «أنا كلمة خُطت بالطباشير» و«أنا صف طويل من حبات القمح من أجلك». يبدأ زكريا بشيء ليعثر على معنى آخر ويخرج الشعر من حدود المعرفة ليصل منطقة الشك، وهي منطقة يجعلها صاحب «الجواد يجتاز أسكدار»، تجتاز حدود الإجابات عن كل شيء، وتأخذ اللغة إلى حالة اللعب بالأشياء كأنه يؤجل الحكمة ولا يقترب منها، فيقول زكريا: «سوف آتيك لاحقاً يا خيمة الحكمة لأجلس تحتك، لكنني الآن غلام يركل الكرة». يطرح الشاعر أسئلته الشعرية بنبرة خافتة ومتواضعة، مثل هذا السؤال العادي أنه لا يعرف «لماذا يبكي الآباء في الحلم؟». ورغم أننا نعلم أن إضافته الشعرية كانت مهمة، ولكنه يقول عن نفسه في مكان آخر: «كل ما لديّ مقتبسات، أقول كلمات غيري». وهو بهذا يجعل للشعر منطقته التي تتسع حيث تصل إلى علاقة اللغة بالحياة وتجاوز الكلمات والأفكار والمواضيع، حين يخاطبنا بالسؤال: «أتعرفون؟ ليس للشعر موضوع ولا فكرة، ليس له هدف ولا مغزى، هو فعل تسكّع بين الحياة واللّغة». ومن هذه المنطقة، تطل «زراوند» وهي تحمل أسئلة الشعر في علاقته مع العالم، التي يحلو لزكريا أن يجعلها تصل إلينا بلغة أخرى نعرفها ونستغربها في الوقت نفسه، كأن يفسّر محبة الله له بقوله: «وضع الله لايكاً كبيراً على بوستاتي».
يربط زكريا بخيطه أشياء لا رابط بينها كما يقول في قصيدة: «الحياة ورقات متفرّقات يجب أن تُربط بخيط حتى لا تفلت منا»، و«الشعر خيط لعين يربط أشياء لا رابط بينها»، وهنا نقع على شعرية ترغب أن تخلق ثنائيات غريبة وبعيدة تقترب فجأة من بعضها بفضل خيط الشعر كأن يقول مثلاً: «البكاء خطأ جيني».
زكريا محمد الآتي من منطقة شعرية لا آباء فيها، قصيدته تحرّض على الذهاب بعيداً عن الوصف، فهو لا يكتفي به كما يقول: «الوصف وحده لا يكفي، يجب أن أذهب إلى ما هو أبعد من الوصف»، «يجب أن أجلب من وسط جهنّم صخرة تفوق الوصف وأقعد عليها». يريد صاحب «قصائد أخيرة» أن يصطاد المعنى في رحلة يكسر فيها أناه، ويتجاوز فيها نفسه واثقاً أن لا نبوّة في الشعر، فيقول: «كل واحد نبي نفسه، مضى زمن اللحوق والتبوع». هنا يصبح زكريا متجذّراً في المكان الذي يحب أن يقيم فيه، حيث المعنى الذي يطل بعين مغمضة، فالشعر «صقر أعمى يغمض عينيه كي يرى»، والحياة أيضاً «تبدأ بعين مقفلة وتنتهي بعين مقفلة». الحياة هنا كالشعر، والعلاقة بينهما قد تصبح رديفة أحياناً. في «زراوند»، صارت العلاقة مع الشعر هي علاقة زكريا مع الحياة نفسها، وهو لم يعد قادراً على الإفلات من الشّعر منذ مجموعته «أحجار البهت» (2008)، كما ذكر في مقاله الشهير «الشعر والبندورة» عن علاقته بالشعر من خلال تسمية عناوين مجموعاته.
تتضح الإضافة الجمالية لعالم زكريا الذي أعلن مبكراً ضجره من نتاج الستينات


للموت أيضاً حصته من عالم «زراوند»، «فهو يقرأ على طريقة بريل»، تقترب فلسفة الموت لتصبح حديثاً مع الصقر، الطير الذي يذكره الشاعر أكثر من مرة، فيقول له: «ايه يا صقر لا يمكن لك أن تعي موتك في أجساد الآخرين»، لكن هذا الحديث أيضاً يوحي بعلاقة الشعر والموت معاً، فالشعر صقر أيضاً، ويبدو أنهما غير متفاهمين، فسوء الفهم كما يقول زكريا هو منطق الأشياء «فكل الأشياء تنهض على سوء فهم». إنها مثل الشعر ومثل الحب الذي يصعب تفسيره.
تبدو أسئلة الحب متشابكة مع الشعر أيضاً، فيأتي كمخاطبة للحبيب دائماً. وهو يقول للحبيب: «اخبطني بجناحك كي تدور النواعير». ولكن حتى أسئلة الوجود الكبيرة، فإن زكريا يجعلها تسأل بلغة أليفة كأن يسألها الكلب مثلاً: لماذا وُجد الإنسان يا زكريا؟ فإن الإجابة الشّعرية تأتي على شكل جواب غير مؤكّد، حين يرد عليه: «لست أدري بالضّبط يا كيوي لكن لعله وُجد كي يضع أصابعه على الثقوب السبعة للقصبة».
يحضر الصمت أيضاً كجزء من المجموعة، فأجزاء كثيرة من السرد تتحرك بفضله كأنّ هناك حديثاً آخر يطول ولا يقال، فيقول عنه: «الصمت يمامة والكلمات فراخها». يحفر زكريا أنفاقاً للصمت داخل لغته المتشعّبة، فنشعر أن جملة واحدة تقول أشياء كثيرة وتتكثف داخل جمل قصيرة نراها تعود إلينا في مشاهد أخرى فنلتقي مجدّداً بالحب والموت والألم والشعر .
الحياة واسعة في «زراوند» ويجعلها الشعر تسأل أكثر عن نفسها، في مشاهد قريبة وبلغة تشبه الحديث. «زراوند» غابة يطل فيها الشعر من كل اتجاه حيث «النص غير منقوط والطريق دوّارة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا