يقول صمويل جونسون: «الشعر هو فن جمع المتعة بالحقيقة... وهذا ما تدركه عندما تقرأ «زراوند» آخر إصدارات الشاعر الفلسطيني زكريا محمد. ففي ما كتبه المتعة الشعرية والجمال المخبوء كما وصف شيللي: «مهمة الشعر أن يرفع النقاب عن الجمال المخبوء ويعيد صياغة رؤيتنا للجماليات». الملاحظ في قصائد زكريا محمد احتفاؤه بالمكان بطبيعته، طيوره، وبشره الذي أخذ حيزاً كبيراً مما كتبه في محاولة منه لاستنطاق كل شيء بلحظة شعرية، إذ أن ارتباطه بالمكان واستخدامه له كأننا به مارد يستحضر بالكلمات كل ما عجزت التعابير العادية عن استيعابه ومحاولة فهمه، والوصول إلى كنهه. ألم يقل كارل ساندبرغ إنّ «الشعر حقيبة التذكارات غير المرئية». نلاحظ كذلك استخدامه العديد من الطيور التي تحمل رمزية خاصة كطيور النحام التي قال عنها: «طيور النحام، تشرح في الحقيقة درساً على السماء فوق رؤوسنا (...) فهو حين يشرح لك مسألة يشرحها بجسده». كما أنه وصف طائر أبي الحناء بأنه يطير كأنه يصلي. إنه خيال الشاعر الخلّاق الذي يرى الأشياء لا نقل على غير حقيقتها، وإنما على حقيقتها التي لا يمكن أحياناً لبعضنا فهمها من القراءة الأولى كأننا به نبي لا شاعر. وسأستعير من ابن خلدون قوله: «الشعراء أنبياء». عندما تقرأ له تشعر أنه جمع الذي لا يجمع وقال الذي لا يقال إلا شعراً، وهو القائل في كتابه هذا: «الشعر خيط لعين يربط أشياء لا رابط بينها». كما أن تجسيد صورة الموت كان حاضراً كثيراً، كأن هاجس الموت هو الضوء الذي يستنير به الشاعر داخله ليعي فكرته بما يتجاوزها، فهو الذي كتب أنّ «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي نجح في أن يعي الموت». في إحدى القصائد، يطرح أحد الأسئلة الوجودية التي تتناول ماهية وجود الإنسان على هذه الأرض، لكن هذه المرة مَن طرح السؤال على زكريا محمد هو كلبه كيوي الذي قال في القصيدة المكتوبة عام 2017 إنه مات قبل شهر من كتابتها. أسئلة تتناول في مجملها فكرة الموت، والحياة والروح التي وصفها مرة بالحنفية المقفلة ومرة أخرى بأنها حفنة من طين. الحب حاضر في ما كتبه زكريا وعلى طريقته الخاصة، فهو يعجن اللغة بشكل لا يمكن إلا أن يجعلك تقف مشدوهاً ومستمتعاً، فالحب بالنسبة إلى زكريا محمد حدث استثنائيّ. كرّر اسم نسرين أكثر من مرة في ما كتب، أكانت حبيبةً أم وطناً مستلباً: «ليجعل الله نسرين شعباً تحت الاحتلال». قال أيضاً إن «الحب عادة قبيحة ينبغي تركها تمضي بلا مظلة تحت المطر». وهنا يحاول أن يقول إن الحب جزء لا يتجزأ من الإنسان لكنه رديف للألم، فهو بالنسبة إليه ليس أكثر من عادة سيئة يحاول أن يتخلص منها. الشعر ليس كمثله شيء، فهو لا يُفهم من القراءة الأولى، وهنا تكمن جماليته، وخاصة في ما كتبه زكريا محمد، فتكرار القراءة غالباً ما يولّد معانيَ جديدة وفهماً مختلفاً عن المرات السابقة. يحاول الشاعر أيضاً أن يقول إن الزمن يغير الناس، جراحهم وحتى آمالهم، فالزمن لا حبيب ولا صاحب له، وحده الشعر يداوي الجراح: «ليس للزمن أحبة، فأنا مرغم أن أكون حبيب الذين مضوا. حبيب شظاياهم». يحضرني في هذا الباب تحديداً مقولة لموريش ساتشي تنطبق على الشعر وما أراد زكريا محمد أن يلمح له: «لا يستطيع الشعر علاج السرطان، ولكنه يمكن أن ينقذ حياتك حتى تموت». كتب زكريا الشعر بكل ما تحمله اللغة العربية. وعن علاقته به، التي ما ينفكّ يذكرها مراراً وتكراراً، فيحاول من خلالها أن يقول إنه لولا الشعر، لما كان زكريا محمد الذي نعرف: «وكان الشعر آفتي». كان الشعر بالفعل آفته الجميلة التي حاول من خلالها أن يتصالح مع هذا الزمن ويورّط قارئه هو الآخر في هذه المصالحة الجميلة:
«الشعر هو محاولة ما للتراضي مع الزمن».
مرات عندما نقرأ ما يبهرنا نعجز عن التعبير عنه أو أنّ اللغة تذهب أحياناً بعيداً عنا في تلك الخلوة الروحية مع الشعر. لذا قد نقصر في ما نكتبه عن الشعر بصفة عامة وعن زكريا محمد بصفة خاصة، هذا الشاعر الفلسطيني الجميل الذي يجعلك تحلم وتقرأ وتحب الحياة... في كل قصائد «زراوند»، أنت تعيد تفصيل أحلامك وتجديدها.
ألم يقل بابلو نيرودا: «ما هو الشعر إن لم يساعد على الأحلام؟». ديوان «زراوند» هو وقفة تأملية للحياة من وجهة نظر زكريا محمد الذي استطاع من خلاله أن يخرج عن السائد ويتماهى مع نفسه. ففي قصائده نراه هو بأشكال وصور متعددة، قد تعبر عن حالة أو تعبر عنا نحن كقراء محتملين، قد نجد أنفسنا اليوم في قصيدة، وغداً في أخرى، فهذا هو الشعر، الفن الذي يقرّبنا منا، وهذا هو زكريا محمد الشاعر والإنسان الذي رسم بالكلمات عالماً جميلاً فيه كل شيء مقسم بميزان، عالماً استطاع أن يؤثّث له انطلاقاً من الواقع البائس الذي أبى الشاعر داخله إلا أن يجمّله كي يصبح آهلاً للعيش.
«زراوند» هو نظرة مختلفة عن عالم الآن، هو نظرة إلى عالم أراد زكريا محمد أن يكتب عنه قصائد متفرقة، لكل منها حكاية تروي النزر اليسير من ذاكرته التي لا شك ما زال لديها الكثير لتقوله. أختم بجملة تختصر رؤية الشاعر للحياة ورؤيته للشعر الذي يتجاوز فكرة الموت: «جسدي سيتحلل في التراب، لكن روحي ستتفتّح كل يوم، وإلى الأبد، في الفيديو تحت شجرة الجكراند».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا