كيف يتجلى الاخوان رحباني كأكبر الشعراء العرب المعاصرين بعبق الحداثة من خلال قصيدة ولحن أغنية: «قال يا بيتاً انا»! مثال حي للمبدعين اللذين ادركا كيف تلتحم الكلمة بالنغمة ليسكنا متآلفتين معاً في زواج التعبير الفني الابرز والاجمل والباقي الى الابد. قد يتجلى أحد انجازات الاخوين رحباني الكثيرة والمتعددة في قدرتهما على توأمة القيمة اللحنية الرائدة لاغنياتهما ومسرحياتهما بما تطلبته من متانة وسمو التعبير الشعري المتوازي. ربما تكون هذة الاغنية غير المتداولة كثيراً ولكن المميزة بطابع السهل الممتنع فنياً، خير دليل على ذلك ! فقد لاحظت وبالصدفة أن معظم الاصدقاء يعتقدون خطأ انها للشاعر الكبير والمميز سعيد عقل! وهذا ان دل على شيء، فهو انهما كانا شاعرين كبيرين ربما قبل أن يكونا موسيقيين، وبالمناسبة لقد شددت في دراسة سابقة لي في ملحق جريدة «السفير» الثقافي اللبنانية منذ زمن بعيد على حقيقة انهما كتبا قصائد واشعار وكلام حوارات اكثر من ٩٥ بالمئة من اغنياتهما ومسرحياتهما! وقد امتد تراثهما الشعري هذا على كل انواع وفروع الشعر العربي واللبناني بدءاً من القصيدة الكلاسيكية والتقليدية القديمة والجديدة عبر كل الانواع الشعرية الاخرى وصولاً الى الموشح، مروراً بكل فروع الفلكلور اللبناني وضمنية انواع الشعر المحكي والزجل! ويدّل هذا على سعة امكانياتهما وقدرتهما على تلبس وفهم خفايا ومتطلبات التعبير الفني للرموز والابعاد الجماليه عبر التاريخ الفني العربي والعالمي، والتي يمكن ان تشترك في انجاح وتشكيل وصياغة العمل المسرحي او الغنائي او الموسيقي عبر كل تعدد مراحل نموه وترابطه ببعضه البعض من حيث المستلزمات الفنية امتداداً بقوة وبلاغة التعبير الفني. تظهر هذه التفاعلات عميقاً في علاقه العام منه عربياً وعالمياً بالخاص لبنانياً ومحلياً بما له علاقة بالتاريخ والتراث وما بينهما من تطور مفهوم الحداثة التي ميزت تلك المرحلة المباركة بغناها وتفرّدها! ولا اخفي سراً اذا قلت ان العديد من شعراء لبنان الحالي والماضي ومثقفيه وادبائه الذين ادركتهم الموهبة والحرفة الادبية يعتبرونهما شعرياً اهم من سعيد عقل تحديداً. ففي دردشه خاصه مؤخراً بيني وبين شاعر العامية اللبناني البارز الصديق السيد جرمانوس جرمانوس، اسر لي هو بهذا الحقيقة وهو يشرح لي وجهة نظرة بثقة.كما اعرب لي قبلة عن هذا الرأي العديد غيره من الشعراء اللبنانيين. هذا النضج الذي ميزهما عن اقرانهما من فناني عصرنا وعصرهما، ساهم في رسم ملامح وسمات وخصائص كانت غير مسبوقة ومبتكرة للشعر كما للاغنية والموسيقى العربية اللبنانية، فرسمت بها الوجه الاخير الراقي لمسيرة تطور تراثنا في سيرة الى حاضرنا الجميل. وانا لا اتردد ابداً في القول انهما سيبقيان والى زمن طويل جداً الاب الشرعي للاغنية (وبعض انواع التأليفات الموسيقية )العربية -اللبنانية! وسيقال دائماً انهما تحديداً من اختطا ولوّنا اسلوباً وطريقاً راقياً وسامياً اخذته الموسيقى والاغنية اللبنانية لتميّز نفسها به عن سائر اساليب وطرائق موسيقى اختها المصرية، والتي كانت قد تربعت على عرش الاغنية العربية قبلهما. عاصي ومنصور شرّفا (على رأس بقية اقرانهما من عصبة الموسيقيين اللبنانيين الخمسة الكبار) الاغنية والموسيقى اللبنانية بكل ما يلزمها لترفد امها الموسيقى والاغنية العربية بكل ما هو راق غني ناضج ومثمر من اسباب النمو والتفرد الذي اغناها ورفدها بالمعاصرة والتكامل الفني الضروري لمواكبة الحاجه الفنية للتعبير عن اصوات عصرهما وعصرنا وربما عصر ما سيأتي بعدنا! الراحلان الباقيان عاصي ومنصور والسيدة فيروز اطال الله بعمرها واعمار اولادهما الفنان الاكبر زياد الرحباني (الا بالفني الجديد لامة فيروز بعد مغيب عاصي) كما مع ابناء المعلم الكبير الراحل منصور توأم عاصي الثلاثي مروان غدي واسامة والذين يتابعون خطة سيبقيان كلهم كورثة حارسة للتركة الرحبانية الخالدة (كل حسب قدرته) سيبقون في هذا علامة فارقة في تاريخ الاغنية اللبنانية وبعض فروع التأليف الموسيقى المُمَسرح بفن المسرح الغنائي الرحباني الخلّاق، بحيث سيصعب على كل الفنانيين من بعدهما الخروج من تأثيرهم، وعباءتهم وسمائهم! هذه الاغنية الرائعة التي تكاد تكون منسية لعدم تداولها من وسائل الاعلام الفني المرئي والمسموع والمكتوب تكاد تشهد على كل ما ذكرناه اعلاه من حقائق لتتحدث عن نفسها بنفسها بلغه شعريه كانت وقتها غير مألوفة ولا مسبوقة الا من معاصرهما الشاعر سعيد عقل، كما تتحدث بشفافية موسيقية تطوي مفهوم السهل الممتنع بنسيج موسبقي بسيط وممتنع يتوازى مع ببلاغة جماليات صورها الشعرية وهو يبتعد بهذة الاغنية بسبب طبيعتها عن الانسجه البوليفونيه الكبرى التي اشتهر ببنائها منصور عكس ما حدثت في اغنية «شال» مثلاً، فارتكزت ببساطة موسيقية ساحرة على مقام الكرد على الـ LA التي تتوافق مع فا ماجور و ري مينور فتتوسل بموسيقيتها مفهوم الابدية وهو يتغير مع تغير الرؤية الجمالية لمرور الزمن على عمر البشر بانواعه البيولوجية والروحية والحسيّة فكرياً وادبياً ضمن رؤية قلما طواها بقلم وفكرة شاعر أو موسيقي قبلهما بهذه الرؤيوية العابرة للزمان والمكان ومفاهيم الوجود !.