وحدها الموسيقى المجردة الخارجة من فجيعة الصمت تترفّع عن رغبة القول بالمباشر لتنأى بالابداع مفتوحاً على السهل الممتنع. إنها لغة الكبار الذين لا يريدون التنازل عن المعنى الكلي الكائن في التعبير عن الرفض والقبول بالمنطق المتداول والمُستهلك بالرتابة! انه التأليف الموسيقي المجرّد، وسيلة الكبار في قول ما لا يقال اثناء الفجيعة أو الاحداث المصيرية التي تهز الكيان والمصير! تصيب الفجيعة الانسان العادي والمواطن وهو يتلقاها بالبكاء أو الضعف أو الضياع. يمر التأليف فوق الحدث كأنها غيمة من السحاب المبلل بموعد مع الأبد. وحدها اللغة الموسيقية تستطيع الكلام بما يبرر الرفض أو القبول انسانياً وفكرياً واخلاقياً. المؤلف الموسيقي العالمي الدكتور عبد اللة المصري كعادته، لا يخرج من صمته، الا ليعيد تفكيك الحدث الى مكوناتة الموسيقية الاولى المنزّهة عن الكلام. الفارق الوحيد الآن أنّ المصري يتنازل بكل اريحية عن الممتنع في قوة التأليف المعروف به، ليجاري الحدث موسيقياً بعد أن يتنازل عن الحداثة التي تنضح بها مؤلفاته. ويُظهر هذا التأليف الكلاسيكي على سلاسة الهارموني الكلاسيكي الذي يمكن أن يقرأه الجميع، وهو يتناول من الزمن دقيقة واحدة فقط لا غير. دقيقة واحدة مفتوحة بقوة الموسيقى على قول المعاني بما يدركها السمو الموسيقي بإيقاع الروح وهي تترفع عن الصغائر برخص الانفعال وضعفه. دقيقة باقية تؤرخ لمصيرية هذا الحدث بقوة الموسيقى المكتوبة عمداً بالاسلوب الكلاسيكي الصارم مع قوانينها الكلاسيكية لتكون غير خاضعة لزمن أو موضة أو تقنية منسوخة بما يتوقعه المرء كمداراة سطحية لموقف تراجيدي حتى العظم. يُعيد المصري صياغة الحدث فنياً بقوة حجمه الحقيقي عبر هذه الدقيقة وهي تنفجر بوجه القبح والاجرام والفساد المتفجر بالإفساد والاستهتار بالانسان. دقيقة كأنها مكتوبة بمازورة واحدة على مقام الـ Re Major. تشعر المتلقي كأنها مفتوحة على مقام الـ Minor بما فيه من حزن وحنين وانفعال متأججة بدرامية العزاء المفتوح على الضحايا والموت والتلاشي! دقيقة تحفل بخفايا مكونات الآلات الوترية لتحاصر صوت الانفجار بالصمت وهو يستل هدوءه ليطعن به ضجيج المتداول بقبح الحدث، وتجمعهم بحكمة الحب الذي يتعمّد موسيقياً أن يستثني الآلات الايقاعية والنفخ الخشبي والنحاسي ليحاصر صوت الانفجار بالصمت الذي يستل هدوءه الداخلي ليطعن به ضجيج الحدث بعمق التعبير مُنَزَّهاً بسلام الموسيقى التي تكتب روحها وهي ترفرف بخشوع استثنائي يعرف كيف يقارب الحدث وهو يتوسل أبدية الجمال الموسيقي!.