أكثر الذين تكلموا عن بيروت ردّوا اسمها إلى الأصول اللغوية السامية كالفينيقية والآرامية والأشورية والسريانية. قالوا إنّ معناها في اللغات تلك «شجرة الصنوبر» أو «شجرة السرو». احترقت هذه الشجرة مراراً وتكراراً، من تريفون الذي صبّ جام غضبه عليها عام ١٤٦ ق.م وأعمل فيها النار والدمار لتنبعث من تحت الرماد وتنتقل من مكانها إلى ناحية الجنوب وتبنى عند الخان القديم بين وادي الشويفات ونهر الغدير، وصولاً إلى شارون الذي اجتاحها بدباباته عام ١٩٨٢، فأوقفته عند الآثار القديمة بين خلدة والأوزاعي، وسقته في «الومبي» وجنوده مُرّ الذل والهوان. بين تريفون وشارون نكبات كثيرة، زلازل وقراصنة وطاعون ونكبات، تُطعنُ عروس الشرق، وحسناء فينيقيا، فتئنّ من الطعنة وتداوي نفسها بالحب والشعر، وتمد على المتوسط شرائعها ومسارحها وبساتينها وعيون مائها والمرفأ المشرع على الريح وسفن الحرف والأرجوان. «لاذقية كنعان» كما سمّاها الفينيقيون، «أمّ الشرائع» و«جوليا فيليكس» كما سمّاها الرومان، «درّة عرش الباديشاه» كما سمّاها العثمانيون، «سويسرا الشرق» كما سمّاها كل من زارها فوقع في عشقها من أهل الأقطار... بيروت النجمة والخيمة والليلك والخندق مطعونة في قلبها اليوم، نكبها السارقون والفاسدون والخائنون والفُجر: لا يعرف هؤلاء أن بيروت إرث للدنيا بأكملها، ومن يرمها بحجر، فإنما يرجم الأنبياء والحضارة والتاريخ. نستعرض في هذا الملف تاريخ نكباتها، ونخفض أعيننا أمام أحزانها. هو سجلٌ لنكباتها لتخرج كما عوّدتنا من تحت رمادها عروساً للبحر والحرية والحب.
ضريبةُ الوفاء (١٤٦ ق.م)
قام سنة ١٤٦ ق.م رجُلٌ اسمه اسكندر بالا يدّعي الملك لنفسه، فنشبت بينه وبين الملك الشرعي ديميتريوس الثاني نيقاتور حرب عوان دافعت فيها بيروت عن حقوق ملكها بشهامة ومروءة، فكان الانتصار حليفاً لديميتريوس. إلّا أن تريفون وزير اسكندر بالا تحزّب بعد موت مولاه لابنه أنطيوخوس السادس المسمّى ديونيسيوس ليجلسه على كرسي المملكة ويملك باسمه. ولعلمه بأمانة بيروت وأهلها لملِكهم، أغار على مدينتهم ليثأر منهم وأخرب أبنيتها وحرقها بالنار فذهبت ضحية وفائها. على أن تريفون نال جزاءه بعد قليل فغلبه أنطيوخوس سيداتيس أخو ديميتريوس ومات طريداً خاملاً. (لويس شيخو، «كتاب لبنان»، ص.٢٣٥).

أمين الباشا ــــ «من ذكريات عين المريسة» (زيت على كانفاس ـــ 100 × 149.5 سنتم ــ 2012)


أختُ سدوم وعمورة (٣٣٤م)
وفي أثناء ذلك، حدث في بيروت من مدن فينيقية زلزلة هائلة خرب بها قسمٌ كبيرٌ من المدينة، فذعر بسببها كثيرون من المشركين الذين كانوا هناك وطلبوا الدخول في الكنيسة واعدين بحفظ رسوم الدين النصراني، ولكنهم بعد فروغ الخطر، عدلوا إلى مذاهب دينية مختلطة تقلّدوا فيها رتب الكنيسة (المؤرخ اليوناني تاوفان).


مدينة الذهب والرماد (٥٥١م)
لمّا حدث ذلك الزلزال في بيروت ومدن فينيقية، اندحرت المياه بإذن الله إلى مسافة ميلين، فانكشفت أعماق البحر وظهرت فيه سفن مشحونة بالبضائع ومالٌ كثير. فحملَ الطمع الأهلين ولم يردّهم الخوف، فتقاطروا ليحرزوا تلك الكنوز فحملوها راجعين بسرعة إلى دُورهم، وإذا بالمياه عادت بغتة فأغرقتهم جميعاً. أمّا الذي كانوا على الساحل، فهربوا لينجوا بأنفسهم من الغرق. إلا أن جدران الأبنية المتساقطة بفعل الزلزال قتلتهم، فماتوا تحت الردم وانتشر الحريق في المدينة بعد خرابها مدّة شهرين فحوّل مبانيها إلى رماد وحجارتها إلى كلس (تاريخ ميخائيل الكبير)


مرثيّتان
١- بيروت ترثي نفسها (حريق٥٦٠م)
«ويلاه أنا أشأم المدن حظّاً وأسوؤها حالاً رأت عيني جثث أبنائي متراكمةً في ساحاتي دفعتين في ظرف تسع سنين، رماني ڤولكان (إله النار) بسهامه المتّقدة بعد أن صدمني نپتون بتيّاره الهائل. وا أسفي على بهائي القديم طمسه الدهر، فأحالني إلى رماد، فيا عابري السبيل ابكوا لسوء طالعي واندبوا بيروت المضمحلة» (تاريخ ميخائيل الكبير).
٢- وردة فينيقيا الذاوية- الشاعر اليوناني أغاثييس
أنا وردة فينيقيا التي ذوت بفعل الزلزال
وزال عنها جمالها الرائع
ودكّت أبنيتها البديعة المنظر
الرائعة الهندسة
ها أنا ذا المدينة التاعسة
كومة من الخرائب وأبنائي أموات
هل تبكون أيها العابرون الماشون فوق أطلالي؟
هل تأسون لمجد بيروت التي لا وجود لها؟
وداعاً أيها الملاحون الباحثون عن مرفأ لهم
وداعاً أيتها القوافل الآتية من وراء البحار. (من «بيروت في قصائد الشعراء»، إعداد شوقي بزيع)

سينما «الريڤولي» عام ١٩٦٠ (صفحة Old Beirut على فايسبوك)


غارات المردة (٨٩٠م)
واستمرت غارات المردة يظاهرهم الروم ضد بيروت، فإن هؤلاء وأولئك كانوا يناوشون هذه المدينة بالقتال والعدوان كلما آنسوا من أنفسهم القدرة على بلوغ شاطئ هذه المدينة على متن مراكبهم التي أعدوها للقرصنة أو عن الطريق البرية التي كان المردة يتسربون عبرها إلى مشارف البلد. («بيروت في التاريخ والحضارة والعمران»، طه الولي)


تحت سيوف الفرنجة (١١٠٩ م)
ثم عاد إليها بغدوين في سنة ١١٠٩ (٥٠٣هـ) مع الكونت برتران دي صنجيل ونزل على ثغرها برّاً وبحراً وعاونهما جوسلين صاحب تل باشر، فعملوا أولاً برجاً من خشب صنوبر باريس ونصبوه على سور المدينة، فكسره المسلمون بحجارة المنجنيق، فجهّزوا برجَين آخرين لمحاربتهم لولا أن الملك الأفضل أمير الجيوش أرسل في أثناء ذلك أسطولاً من مصر يتألف من تسعة عشر مركباً حربياً فظهروا على مراكب الفرنج وملكوا بعضها وأدخلوا الميرة إلى بيروت، فقويت بها نفوس أهلها. أما الملك بغدوين، فإنه أرسل إلى السويديّة يستنجد بمن فيها من الجَنَويّة في مراكبهم، فوصل منها إلى بيروت أربعون مركباً مشحونة بالمقاتلة فزحفوا إلى بيروت بأسرهم في نيسان ١١١٠ ونصبوا البرجين على أسوار المدينة واشتدوا في القتال، فقُتل مقدّم الأسطول المصري وخلق كثير من المسلمين يوم الجمعة ٢٨ من شوال. ثم هجم الفرنجة على البلد في آخر النهار، فملكوه بالسيف قهراً وهرب أميره الذي كان فيه مع جماعة من أصحابه، لكن الفرنج أدركوه وقتلوه ونهبوا البلد وسبُوا من كان فيه وأسروا كثيرين واستصفوا أموالهم وذخائرهم (ابن القلانسي، «تاريخ دمشق»، ١٣٨).


صلاح الدين يسترد بيروت (١١٩٧م)
ودام القتال أياماً يتضاعف اصطلاءً واصطلاماً، ويتظاهر اضطراباً واضطراماً، وباتت الحنايا هائجة وأمّات المنايا ناتجة، ورجمت بشهب النفّاطات شياطين الداوية المردة، وتعادت الأسود العادية على أولئك القردة، حتى خرقت الخندق وطرق وعلق وعلق النقاب بالسور، فنقب وكاد النقب يتسع والبرج يقع والجدار ينقض، والحجار بالحجار تنقض وترفضّ، وسار السور ينكسر، وقناع النقع لا ينحصر. وخرج من البلد (بيروت) رجال إلى الموت عجال وقفوا دون الباشورة مباشرين ولمعاطاة أصحابنا بمعاطاة كؤوس المنايا معاشرين، فتلاقوا بسلام السلام وكلام الكلام وتصافحوا بالصفائح وتجاروا بالجرائح وتواصلوا بالقواطع وتعانقوا بالمقانع وتصارعوا بالمصارع وتجلّدوا وتجالدوا وتواقحوا وتعاقفوا، وتعاقروا وتقارعوا، والبيض تقد، والبأس يرد، والصيقل الصادي يصدأ بالدم ويروى، وحزب الكفر يضعف وحزب الإسلام يقوى (عماد الدين الكاتب الأصبهاني، «الفتح القسي في الفتح القدسي» ص٣٥).


طاعون ١٧٦٠م وانهيار برج الكنيسة
في هذه السنة (١٧٦٠م)، دخل الفنا (الوبا) الشام وكان قدومه من ناحية عكّة، واستقام في الشام ودايرتها نحو ستة أشهر إلى آخر الصيف. وكان فنا عظيم كبير، وكانت حدوده من أراضي غزة والرملة والقدس وبلاد حوران ودايرة حوران وساحل عكّة وصيدا وبيروت وطرابلس إلى حدود إنطاكية، وكلّ من تخبّى وانحجب بضَبط سلِم. وبهذه السنة ظهر في الشام وتخبّى النصارى بالبيوت والديورة بغير مانع، وتخبّى إسلام بالمخفي... وكل من لا يحتجب في أيام الفنا، فهو مخالف ومخطي بحد ذاته، لأنها أيام غضب من الله تعالى لأن الله تعالى قال بلسان أشعيا النبي: «ادخل يا شعبي إلى مخدعك إلى أن يجوز رجز الرب». وفي السنة المذكورة، انتهى بناء كنيسة للنصارى في بيروت تبرع بنفقاتها أحد وجهائهم المدعو «أبو عسكر» وبلغت كلفتها ما ينيف عن خمسين ألف غرش عثماني، وفي نهار الأحد الثاني من الصوم عند النصارى، في شهر آذار، بينما كان الناس يحضرون القداس انهارت هذه الكنيسة على من فيها، ومات يومئذ تحت الردم مائة شخص. فكانت كارثة مروعة تأثر بها جميع البيروتيين المسلمين والنصارى وشملهم الحزن على مختلف مستوياتهم وطبقاتهم («تاريخ الشام»، الخوري مخائيل بريك الدمشقي)

بائع الكعك في ساحة رياض الصلح عام ١٩٥٤ (صفحة Old Beirut على فايسبوك)


المسكوب يحتلون بيروت-١٧٧٣م
رسا الأسطول الروسي في ميناء بيروت عند الساعة الحادية عشرة من صباح تاسع تموز سنة ١٧٧٣... وكان هذا الأسطول المتجول بحثاً عن الطرائد الثمينة لقراصنته، يتخذ من شواطئ قبرص قاعدة لانطلاقه إلى فريسته. فلما أتاه صريخ الاستغاثة من طاهر العُمر تلبية لرجاء حليفه الأمير يوسف الشهابي، أقلع منها في الحال متجهاً صوب شواطئ بيروت وضرب حولها حصاراً محكماً ثم أدار زناد مدافعه لإطلاق خمسين قذيفة هوائية إعلاناً بقدومه من أجل نجدة الجبليين وإعادة أميرهم إلى قرة عينه بيروت. وفي اليوم التالي، بدأت المعركة الحقيقية وأخذت البوارج مراكزها النهائية تجاه المدينة على بعد قريب من السور المواجه للبحر، وأخذت تواتر إطلاق القذائف اللاهبة والحاطمة سائر النهار، فأصابت قلعة البحر التي كانت تحمي الميناء ودمّرتها، وأصابت ما يلي هذه القلعة، من السور الذي تعب الجزّار في تحصينه ودعمه بالأبراج، ففتحت فيه ثغرة بعدما تدحرجت بعض حجارته الضخمة إلى البحر. ورغم كل ذلك فإن المدينة لم تقدّم أي بادرة على رغبتها بالتسليم ورفع راية الهدنة والهزيمة، وما إن هبط الليل حتى أمر الجزّار جنوده المغاربة والأرناؤوط بأن يطوفوا في شوارع المدينة المحاصرة وبأيديهم تماثيل رمزية تمثل أنماطاً من أهل جبل لبنان بأوضاع مزرية إمعاناً في السخرية وإثارة لحماس البيروتيين في الدفاع عن مدينتهم (ادوار دولاكروا، «كتاب أحمد باشا الجزار»).


ليفربول تضرب الكرنتينا (١٨٤٠)
هزّت زمجرة المدافع البلد، بعد البارجة «ليفربول»، أطلقت البارجة «وستفاليا» قنابلها، ثم تحركت البارجة «فيينا» مبحرة باتجاه البر تجر خلفها سفينة تركية [...] هزّت القنابل البلد. حبّات التراب تساقطت من السقوف. جسور الصنوبر المسودة ارتجفت. المحادل الحجر ارتجفت. الحيطان ارتجفت وسقطت عنها قشور. درفات النوافذ طرطقت، وارتعش شبك الحديد. اهتزت الأواني الزجاج على الطاولات في البيوت الجديدة واهتزت ثريات الشموع. كل بيروت ارتجفت في ذلك الصباح البعيد. المدينة ارتجفت والـ ١٥ ألف نسمة الذين يحيون بين أسوارها، ارتجفوا. الماشية ارتجفت في الزرائب. الأرواح ارتجفت في المقابر، والشجر ارتجف، ارتجفت بيروت كما لم ترتجف في عواصف شتاء سنة ١٨٠٩، وارتجفت كما لم ترتجف قبل سبعين عاماً حين أنزل الأسطول الروسي عشرة مدافع في «سهلات البرج» وقصف السور وفتح في السور ثغرة بين بابي الدباغة والسراي. في ذلك الزمن البعيد، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أثناء الحرب العثمانية-الروسية، قُصف سور بيروت بالمدافع للمرة الأولى. الآن في صيف ١٨٤٠، تُقصف الكرنتينا، فهل تتحرك البوارج في هذا الاتجاه وتقصف البلد أيضاً؟ هزّت الانفجارات البلد. العجائز الذين يذكرون سنة المدافع الروسية رفعوا رؤوسهم إلى السماء وراقبوا الغيوم القليلة المتباعدة. الغيوم تشبه ذكريات بعيدة. اهتزت الحيطان واهتزت الأسوار واهتزت الأرض. ارتعشت مياه الآبار. وحدها السماء بقيت ثابتة. كل شيء يتبدل والسماء تظل على حالها. البر يتغيّر والبحر يتغيّر. والسماء هي هي [...] ننظر إليها اليوم كما نظر إليها الأسلاف كما نظر إليها جدّنا آدم. (ربيع جابر، «بيروت مدينة العالم»)


بيروت والعُملة (١٩١٦)
فقدان النقود الصغيرة من الأسواق وما رافقه من تدابير كانت مصيبة من مصائب الحرب الكبرى... وكان من جراء ذلك أن بارت البضائع، ومنيت النفوس بالكبت، وصعدت أرواح الجياع إلى الملأ الأعلى تشكو إلى بارئها قساوة الإنسان... يحتاج المرء إلى النقد الصغير فيبدل الليرة بتسعين قرشاً، وفي اليوم التالي، يقل هذا النقد تبعاً لكثرة الطلب عليه، فتسقط الليرة إلى ثمانين قرشاً، وكلما تدنى ثمن الليرة فقدت الثقة بها... والواقع أن الذي خلق هذه الأزمة ليست هي ندرة النقد في الأسواق فحسب، بل التدابير التي رافقت هذه الندارة، ذلك أن إدارات البرق والبريد والجباية وغيرها، وكذلك الشركات الرسمية مثل شركتي سكة الحديد والترامواي، تدعى كلها بأنها مأمورة بأن لا تتقاضى من المكلف إلا عين المطلوب لها، فترفض ما يدفع لها زيادة ولو كان متليكاً (المتليك يساوي خمسة قروش)، كيلا تكون مدعوّة لرد هذه الزيادة (محمد جميل بيهم، «الحلقة المفقودة في تاريخ العرب»).


بيروت فرسٌ شاردة (١٩٧٥)
وإلى جانب النباتات، جذب الخط الأخضر الحيوانات أيضاً. في أثناء حالات وقف إطلاق النار، كانت الكلاب والجرذان تخرج للبحث عما تقتات عليه. ويقال إنها كانت تلتهم الجثث التي لم يجد أحدهم الوقت أو الشجاعة لدفنها، وكانت الكلاب أحياناً تهاجم النساء والأطفال. ومع زيادة كثافة الأعشاب والحشائش، حلّت قطعان من الأغنام محل السيارات والحافلات في ساحة الشهداء، كما ظهرت الأبقار في شارع كليمنصو. وصوّر أحدهم حصاناً هرب من إصطبلات سباق الخيل وهو يتجول خلال صالة انتظار مهجورة بالمطار. وظهر كثير من الطيور والأنواع الأخرى في المدينة أكثر من أي وقت سابق، إذ لم يعد اللبنانيون يصطادون الطيور، بعد أن تحولوا إلى اصطياد بعضهم بعضاً. («ثلاث مدن مشرقية»، فيليب مانسيل)


بيروت جديلة محترقة-١٩٨٢
أتنقل من جثة إلى أخرى، ولعبة الوزة هذه ستنتهي حتماً إلى هذه المعجزة: شاتيلا وصبرا يُمحيان. كانت المرأة الفلسطينية مسنّة، في غالب الظن، لأن الشيب كان يمازج شعرها. كانت ممددة على ظهرها. اندهشت، أول الأمر، لوجود جديلة غريبة، من قماش وحبل، ممتدة من معصم إلى معصم آخر، رابطة بذلك الذراعين المتباعدتين، وكأنهما مصلوبتان. والوجه الأسود المنتفخ مستدير نحو السماء، كاشفاً عن فم مفتوح ملأته قتامة الذباب، وأسنانه ظهرت لي جداً بيضاء. كان هذا الوجه يبدو، من دون أن تتحرك عضلة فيه، إما كأنه يُقطِّب، أو يبتسم، أو يصرخ صرخة صامتة مسترسلة. لم أكن قد لاحظت ذلك، فأصابع يديها، كانت مروحية الشكل، والأصابع العشر مقطوعة بمقص. لا شك أن جنوداً قد استمتعوا وهم يكتشفون هذا المقص ويستعملونه، ضاحكين مثل أولاد وهم يغنون فرحين (جان جينيه، أربع ساعات في شاتيلا).