صناديق بريدنا فارغة، ليس لدينا من يكاتبنا في هذه البقعة الملعونة من العالم. قراصنة وقطّاع طرق ومافيات يتوزعون غنائم الحرب ويلفظوننا إلى العراء مثلما يفعلون بفوارغ الطلقات. نواجه أطول امتحان اعتمده الرّب تجاه بشره المنكوبين والمنسيين، من دون وعدٍ أكيد بالجنّة. لا تكفي سنوات الجحيم كي نعبر إلى برزخٍ آخر لفحص آثار الطوفان. فقط غربان وجثث متفسخة وأوبئة بما يزيد عن حصتنا من الألم الدنيوي بدرجات. نتجوّل في الشوارع والساحات بعد الجريمة بقليل، وكأن ما يحدث يقع في باب التسلية المرحة لا أكثر. موتنا قديم لم يعد صالحاً للشاشات كخبرٍ عاجل. هناك حروب طازجة في خرائط أخرى أكثر حيوية لشهوة الدم. متروكون للذّل والهوان وأسباب الفجيعة: أن ترى أسمال رجل وهو يغوص في حاوية الزبالة، وكأنه يتمم عمله المعتاد في عزل الألغام عن سواها، كما لو أنه كلب شارد. أتخيّله، سيعوي، بعد لحظات، تعويضاً عن فقدانه القدرة على الصراخ والاحتجاج. متسولو كرامة ببطاقة ذكية وطابور سكر وشاي وخبز ورز مطبوخ بالحشرات، على بعد أمتار من شكسبيريين غارقين في وهم «العاصفة»، فوق خشبة مهترئة، وحفلات دعارة بصرية بكمامات تحمي من فيروسات العدوى، ورغوة شعارات منتهية الصلاحية ترددها جوقة مهرجين فوق حبال الوقت الضائع. هناك أيضاً فائض جرائم الاغتصاب والخطف والموت في ممرات المشافي، بما يكفي لألف حلقة وحلقة من برنامج «حكم العدالة» ظهيرة كل ثلاثاء. آسفون، ليس لدينا ما يشعل مواقع السوشال ميديا، فبضاعتنا من الموتى وألوان العار وضروب المجاعة لا تهيّج الأعضاء لفيالق الحمقى، والشعراء العموديين، ولصوص الكرامة. منصات ثقافية لخشب الكلام وبلاغة الأسلاف، وسيوف الغزو، وصدأ التاريخ. على المقلب الآخر، ميكرفونات متجوّلة من حيّ إلى آخر، تخترق النوافذ والجدران لشراء البلاستيك المستعمل، والبطاريات الجافة، والخردة. حياتنا خردة، وزماننا مستعمل، وساعاتنا معطّلة على توقيت الجحيم، ووجبات حساء المرضى في المصحات العمومية. كان أحدهم يرتدي على الدوام ثياباً بلونٍ أصفر بما فيها ربطة العنق، كان الرجل الأصفر سعيداً باختلافه عن الآخرين، مثل طائر غريب في شوارع حلب، ما أثار غضب القنّاص فأرداه قتيلاً، أثناء نوبة ضجر. الآن، في إحدى عشوائيات العاصمة، يتجوّل رجل كما خلقه الرّب، بعد أن فقد آخر جرعة أمل بالعيش على نحوٍ آخر. سنصادف قريباً، عراة لا مجانين كأفضل تعبير عن لوثة ما بعد الحرب، طالما أن الحياة باتت أقلّ قيمة من سلة غذائية. ذبائح ومسالخ بشرية في مباراة علنية مع أضاحي العيد أمام دكاكين القصّابين بسكاكينهم الطويلة. لا فرق شاسعاً بين مشهدي الذبح، فلكل قصّاب حصته من الدم. بريدنا معطّل بين شمال البلاد وجنوبها في حال ارتكبنا وهم معايدة الأمهات البعيدات، على عكس ما تؤكده دروس الجغرافيا، ومواضيع الإنشاء المدرسية. آسفون، بريدنا معطّل يا سيدي، وحياتنا لم تعد صالحة للفرجة، حتى لو تدخّل شكسبير شخصياَ في رسم مصائرنا المؤجلة في هذه الملهاة الكونية! لا أحد يستطيع إعادة الموتى من مقابر الغرباء، فقد دفنوا الشعراء بأرقامٍ مجهولة في متاهة التراب، وفقدنا عناوينهم إلى الأبد.