لم يكن صعباً على من نشأ في مراكش، إحدى أبرز عواصم الغرب الإسلامي التي تزخر بموروث قوي على مستوى صناعة القول والسرد الشفاهي، أن ينطلق من الماضي ليفتح السرد على حاضره. فالتشبع بتقاليد السرد، جعل ابن مدينة الحكي الشعبي الروائي المغربي ياسين عدنان يقارب حاضر مراكش المشتعل بطريقة الحكواتيين، طارحاً بدقةٍ التباسات تاريخها الحديث بكل تداعياته وتناقضاته في روايته «هوت ماروك» (2016) التي صدرت أخيراً ترجمتها الفرنسية ضمن «سلسلة سندباد» عن «دار آكت سود» الفرنسية العريقة. فموضوع الرواية الرئيس الذي تنبثق من خلاله مواضيع عدة، هو دخول الإنترنت حياة الناس والتغيير الذي أحدثه فيهم، وكيف استطاع هذا العالم الافتراضيّ أن يعمِّق الهوة بين الحقيقة والافتراض، ما جعل الناس ــــ ومنهم أغلب شخوص الرواية ــــ يعيشون حقيقتهم افتراضاً ويعيشون افتراضهم حقيقةً. والتعمق في دراسة «هوت ماروك» يجعلنا نقبض على العديد من الأعطاب النفسية والسوسيولوجية، أعطابٌ تتنامى بين الحقيقة والوهم.خلف هذا العالم الإلكترونيّ ينطوي الكثير من الظواهر. من ذلك ما أشعرَ به فضاء الإنترنت البعض من حرية تكاد تكون مطلقة لتدوين أيّ شيء تحت أيّ اسم، ورفع أيّ شعار من دون محاذير، والذهاب بعيداً في حرية التعبير التي تحوّلت في الرواية إلى حريةِ تشهير، والشطط في إبداء الرأي ليبلغ حدود الشتم والقذف، من دون الحديث عن وضع الجبان الذي يستغل المنبر الإلكتروني ليدّعي الشجاعة، ثم تراه يفاخر بما ليس فيه، إضافة إلى طينة أخرى من البشر تقول عنها الرواية بأنها تستغل الفضاء الإلكتروني كي «تحوِّل أعطابها إلى مفاخر». هذا من دون الحديث عن التنطُّع الذي تزايد بشكل لافت في كل المجالات، خاصة في عالم الأدب الذي غدا للأسف رحباً لاحتضان كل مُدَّعٍ كي يمتهنه كما تُمتهن باقي الحرف.
أيضاً، درس ياسين عدنان من خلال روايته التغيرات التي طرأت على الشعوب جرّاء سطوة العولمة. كما لم يفته التوقف عند تقديس الشعوب العربية لحُكّامِها الذين بمجرّد رحيلهم يصبحون جاهزين لدرس التاريخ، مع إدارة دفة التبجيل صوب الحاكم الجديد.
وكان للصحافة التي خبِر ياسين عدنان أغوارها حصة الأسد من النقد في الرواية. فمن خلال شخصية أنور ميمي، أعطى نموذجاً لصحافة الفهلوة والاحتيال وتلفيق السكوبات الكاذبة، صحافة تمارس الابتزاز وتقتات على القذارة. ثم من خلال نموذج نعيم مرزوق، يُظهر الكاتب جانباً من الصحافة تمارس عملها بدون ذمة ولا مبادئ، وتبدو مستعدّة لبيع ضميرها من أجل المال. كما تناول من خلال صفحة عتيقة «تقدّم نفسها فايسبوكياً بصفتها مناضلة نسائية» كل مناضل مزيف يريد ركوب الأمواج. ولكم شاهدنا على أيامنا هذه أبطالاً من وهم صنعتهم صور «البوز» ومبالغات الفيسبوك!


هذا عن البشر وأخلاقهم، لكنّ «هوت ماروك» رواية مكان أيضاً. فقد برعت في رصد التحولات العمرانية التي عرفتها مراكش خصوصاً ما تعرّضت له المدينة من ترييف ممنهج، إضافة إلى ما تعرضت له واحتها وأشجار شوارعها من قطع واجتثاث.
وطبعاً كان للسياسة وما سببته للشعوب العربية من مآسٍ نصيب الأسد من هذا العمل الروائي المتفرّد بدءاً بالحراك الطلابي في الجامعة حتى الحملات الانتخابية الصاخبة. لكن مقاربته الساخرة للتحولات التي عرفتها السياسة في المغرب كانت مشوقة ومؤلمة في الوقت نفسه. وهي تعكس التردّي السياسي العربي العام الذي نعيشه في مشهد خلا من المناضلين واستتب الأمر فيه للانتهازيين والمهرّجين وتجار الانتخابات.
أمّا بخصوص العنوان، فالقارئ يستهلك تقريباً نصف الرواية قبل أن يفهم معنى «هوت ماروك» الذي هو عنوان صحيفة إلكترونية مؤثرة يتحكم بها جهاز المخابرات ويسيرها من وراء حجاب. وهنا تدخلنا الرواية إلى عالم مشوّق يُطرح للمرة الأولى في الرواية العربية. وتبقى «هوت ماروك» الرواية العربية الوحيدة ـــ على الأقل في ما قرأت لغاية الآن ـــ التي تناولت موضوع الإنترنت وتفاعُلنا معه، والعالم الافتراضي وأثره على الذهنية المغاربية والعربية برؤية تحليلية وعمق نقدي. فياسين عدنان في «هوت ماروك» فكّك الفرد المغربي والعربي المأزوم كما يعيش صراعاته الداخلية وصراعات مجتمعه، مع اهتمامه بالطريقة المشوّهة التي تنتقل بها إلى فضاءات الإنترنت. أما شخصيات ياسين عدنان، فتحسها شخصيات حقيقية من لحم ودم. وليست شخصيات مفتعلة مُستلَّة من الكتب أو وليدة المراقبة المتعالية لتحوّلات المجتمع. بل واضح أن ياسين عدنان كان قريباً من شخوصه وعوالمهم، عارفاً بأدقّ أحوالهم النفسية، وبأسرار هذا العالم الجديد أو القارة الإلكترونيّة الجديدة.
ورغم حجمها الذي يتجاوز 500 صفحة، إلا أنّ «هوت ماروك» رواية تقرأ بسرعة لأنها سرعان ما تأسر قارئها وتوفر له حظاً كبيراً من الاستمتاع، خصوصاً أنّها رواية غنية ليس فقط بالأحداث المشوقة والشخصيات المبتكرة، ولكن أيضاً بالمراجع الثقافية والقيمية، والسجلات اللغوية بدءاً باللغة القرآنية، واللغة الأكاديمية النقدية، ثم لغة السياسيين بمناوراتها وشعاراتها، ولغة مواقع التواصل الاجتماعي، وانتهاء بلغة الشوارع غير المهذبة باللهجة المغربية. وهذا الثراء اللغوي شكَّل فعلاً إحدى نقاط قوة الرواية.
كُتبت «هوت ماروك» على امتداد خمس سنوات، وهذا تحدٍّ كبير بالنسبة إلى الروائي الذي يشتغل على مهل كي يقدم للقارئ عملاً جاداً يعكس واقعه، ونصاً قوياً صادق النبرة في السرد والخطاب. وقد استطاع الكاتب أن يبرهن أنّ الرواية ليست حرفة من لا حرفة له، ولا تتأتى بمجرّد امتلاك موهبة الكتابة، بل لأن فعل الكتابة يتجاوز ذلك إلى الهواجس والقضايا التي تؤرق المبدع. وياسين عدنان كان بارعاً في توريط قارئه في قضاياه، حيث يجعل من قارئه شريكاً مهموماً منفعلاً لا متفرّجاً محايداً.
لا تخلو رواية «هوت ماروك» من روح الدعابة والفكاهة التي تجعلها سهلة الهضم قريبة إلى القلب لمن يبحث عن المتعة. لكنها تبلغ قمة السخرية في جزئها الثالث «الكوميديا الحيوانية» الذي يصف فيه الكاتب الصراع الانتخابي بين حزب الناقة الإسلامي وحزب الأخطبوط الليبرالي الموالي للسلطة، خصوصاً تلك المعركة الانتخابية الطريفة التي سميت في الرواية «معركة الحلزون».
رصد التحولات العمرانية التي عرفتها مراكش والترييف الممنهج الذي تعرّضت له المدينة


كنت تحدثت مع ياسين عدنان عندما أتممت قراءة «هوت ماروك»، فقلت له ممازحة: «هذه الرواية لم تكتبها وأنت في بيتك وبهندام المذيع المتأنق، بل كتبتها وأنت منغمس في قاع القاع». قلت له: «إن الذي يكتب هذه الرواية لا يمكن أن يكون من أبناء الفروماج». ولعل معنى أبناء الفروماج عندنا نحن المغاربة هو المدللون. وما دمنا نتحدث عن الأدب، فأدباء الفروماج هم الذين لا ينزلون من أبراجهم كي يكتبوا روايات تشبه الواقع المعاش، بل يكتبون روايات خيالية من عالم غريب عجيب يصنعه بعضهم ويعيش فيه، والأدهى من ذلك يريدون فرضه على القارئ.
إن المشهد الأدبي العربي بحاجة إلى مثل هذه الأعمال التي تصالح القارئ العربي مع القراءة، لا تنفّره منها، خاصة أن القراءة بولوج الإنترنت أصبحت فعلاً عصيّاً.
هذه الرواية ــــ على الرغم من حجمها الضخم وعدد صفحاتها ــــ إلا أنك حين تتورّط فيها تنزعج كلما أشرفت على الانتهاء منها. إنها رواية قريبة جداً منا نحن أبناء الوطن الافتراضي الجديد. أعتقد أن لكل دولة عربية مدينة كمراكش، وحيّاً مشابهاً لحيّ المسيرة، بفوضاها ومشاكلها التي تعكس هموم ومشاكل العربي. «هوت ماروك» رواية تشبهنا وتمثلنا، لأنها ببساطة تعكس واقعنا بذكاء، وتعكس الروح العربية التي نتمنى أن تصل الآخر من خلال الترجمة.