«من هو مخرجك المفضّل؟»، «ما هو فيلمك المفضّل؟» هما من أكثر الأسئلة التي تُطرح عليّ عندما أقابل أيّ شخص. وهما بالمناسبة من أكثر الأسئلة التي ليس لديّ جواب حقيقي عليهما. ليس لديّ مخرج مفضل مطلقاً، وليس لديّ فيلم مفضل على الإطلاق. ولكن بصراحة؛ إذا حاولت الإجابة عن هذا السؤال بيني وبين نفسي، دائماً ما يكون المخرج الأميركي آبل فيرّارا (1951) من أوائل المخرجين الذين أفكّر بهم، وفيلمه «الإدمان» (1995) دائماً ما يحتل ـــ إن لم أقل الصدارة ــــ مركزاً بين أفضل عشرة أفلام عندي.صنع فيرّارا بعضاً من أكثر الأفلام الأميركية قتامة وطموحاً في السنوات الثلاثين الماضية. أفلامه دائماً ما تبحث في المكان المظلم داخل الإنسان نفسه. أبطاله دائماً ملتزمون بالقيم المسيحية، فنانون، فلاسفة، طلاب، مجرمون، رجال شرطة. وكلهم يكافحون محيطهم العدائي، ما يطمس الخطوط بين الأبطال والأشرار. ويدعونا فيرّارا دائماً للتعلم من الصراعات التي تواجهها شخصياته. في الأعوام الـ15 الأخيرة، بدأ فيرّارا بصنع أفلام أكثر شخصيةً عنه، عن حياته، أسراره، مخاوفه، وطبعاً شياطينه.
احتفل فيرّارا يوم الأحد بعيد ميلاده التاسع والستين. مناسبة لإعادة مشاهدة واحد من أفلامي المفضلة على الإطلاق. «الإدمان» ليس فيلم رعب، ولا فيلماً عن مصاصي الدماء، إنه أكثر بكثير. كتبه نيك جون في فترة صعبة من حياته، بعد وفاة ابنه. فيلم يفرض نفسه على أنه دراما أخلاقية وفكرية متغطرسة. شاهدته للمرة الأولى مع والدي، الفيلم بكل تأكيد من الأفلام التي لعبت دوراً كبيراً في حبي للسينما ولهذه الشاشة الكبيرة التي دائماً ما نجد الخلاص عندها.
******
عندما يحلّ الليل ويتسلّل الظلام، يرتفع صوت الطبول، تسحب امرأة كاثلين (ليلي تايلر) وهي في طريقها إلى المنزل لتنطلقا في رحلة روحية تنويرية. في الزقاق، امرأتان، هذه كازانوفا (أنابيلا سكيورا) تواجه كاثلين: «ائمريني أن أذهب وأتركك» تقول. لا تجيب كاثلين، لا إرادة أو قدرة كافيتين لدفع الشر بعيداً، لا بل إنّها تبدو مستسلمة ومسلّمة، ها هي تسمح لعضة تشبه الاغتصاب باجتياحها. تخفت الموسيقى وينخفض صوت الطبول ليفسح المجال لصوت سيارة الإسعاف الذي يعلو بينما تنقل كازانوفا العدوى بشراهة. الأسنان التي غرزت في رقبة كاثلين تركت أثراً واضحاً وحدّدت مصيرها الآتي لا محالة، هي ستصبح مصّاصة دماء.
قريباً سوف يكتمل هذا الكائن الجديد الذي فيها، وسيبدأ عطشها الذي لا يُروى للدماء. سرعان ما سيصبح حاجة أساسية بل أقرب إلى إدمانٍ أعمى سيقودها لاكتشاف أوجهٍ جديدة للإنسان. ومن هنا يبدأ هيكل الفيلم بالتشكّل، تُبنى الحوارات بطريقة فلسفية وتغوص في كلامٍ عن الخطيئة والأخلاق. لا تأتي هذه الحوارات الثقيلة من خارج السياق، فكاثلين طالبة فلسفة. المخرج الأميركي آبل فيرّارا يسترسل هنا أكثر من أي وقت مضى في سلسلة من التشابكات النفسية والفلسفية المعقّدة التي سوف تجعل الفيلم أكثر سوداوية ودسامة. مع العضّة، تستيقظ الجراثيم الموجودة في الجميع وتتضخّم، جامعةً بين الرغبة في القدرة المطلقة والخلود والسيطرة على الحياة والموت والآخرين. إثارة الخطيئة تزداد اتساعاً، كلما زادت الخطيئة، بالتالي يكبر الشعور بالذنب. الإدمان له طبيعة مزدوجة، من ناحية يُرضي الحافز الذي ينشأ عن الشر. ومن ناحية أخرى يُضعف الإدراك، بحيث نفقد الوعي بحالتنا. نشرب مثلاً، لنُضعف الوعي بكوننا مدمنين على الكحول. ويصبح الوجود بحثاً عن الراحة من الإدمان، والشرب هو المكان الوحيد الذي يمكن أن نشعر به بأنفسنا. ففي النهاية نحن لسنا خطأة لأننا نخطئ، بل نحن نخطئ لأننا خطأة.
«الإدمان» ليس فيلم رعب صريحاً ولا حتى فيلماً فجّاً أو اعتيادياً عن مصاصي الدماء. فيرّارا حوّل هذا النوع من الأفلام إلى العمق، إلى دراسة نفسية وفلسفية عن الإنسان والإدمان. في هذا الإطار الموضوعي، يطعّم مشاهده باقتباسات فلسفية من هوسرل، نيتشه (وموسيقاه أيضاً)، فورباخ، ديكارت وغيرهم... يعود بنا إلى أفكار تاريخية تشير إلى المجازر وجرائم الحرب في القرن العشرين، ولا يتوانى عن تقديم محتوى لاهوتي فكري ينتقد الكاثوليكية الرومانية.
لقاء كاثلين مع «المرشد» (كريستوفر ووكن)، وأزماتها النفسية، تعطشها للدماء، امتناعها عن الجنس، تقلباتها المزاجية، ميولها الانتحارية، حفل التخرج الذي يصبح احتفالاً لمصاصي الدماء، حاجتها إلى الخلاص ويأسها لاسترداد حياتها... كلها عوامل لا يمكن أن تترك المشاهد غير مبالٍ بل على العكس تماماً. نصل إلى المشاهد الأخيرة في المقبرة، هنا النهايات تتشكّل بوضوح. على الرغم من الغموض والأسئلة الكبيرة، نصبح أمام انعكاسات واضحة لجميع التناقضات المستعصية للطبيعة البشرية. شهوانية الروح أم شرور النفس؟ الضعف البشري أمام قوة خارقة أم الحاجة إلى هذه القوة لإدراك الطريق؟ لا يجيب الفيلم، أساساً هنا ليست للإنسان هوية واضحة. ولكن مقاربة المخرج الأميركي واضحة لأنها خلقت حالة من التماهي بين إدمان المخدّرات وإدمان الدماء في الفيلم، هكذا يمنح فيرّارا وهمية مصاصي الدماء بعداً واقعياً، هكذا يلوم مصاصو الدماء ضحاياهم، هم ضعيفون يفتقرون إلى القوة اللازمة لمقاومتهم. نتصارع هنا بين معضلات أخلاقية. الخطيئة هي أصل كلّ بلاء. الطريق إلى الخلاص يبدأ بالإقرار. والشعور بالذنب سيرافقنا لا محالة. اعتدنا على مصاصي دماء لا تنعكس صورهم في المرآة، فالمجتمع لا يستطيع رؤية الشر الموجود في داخله. ولكن في فيلم فيرارا، المرآة تعكس صورهم. «المدمنون» هنا يقرون بشرور أنفسهم وبخطاياهم، والطريق إلى الخلاص هو من خلال الإقرار بالذنب.

ليست هناك مفاجآت في الفيلم، فيرارا استخدم رموزاً يمكن إدراكها بسهولة، وإن لم نفهم، فالحوارات كفيلة بذلك. الفيلم «ميتانويا»، رحلة تحول الذات، تغيير الفكر وتغيير العقل الباطن في مسارٍ معقّد وعسير، مسار الإدمان. دائماً ما يتمكن فيرّارا من ادراج موضوع الفداء الشخصي في أفلامه. في الفيلم، الفداء يكمن فقط في النزول الكامل الى الجحيم قبل العودة. ولكن الفيلم يصف طريقة هذا الفداء بمنظور خاص. يشبه منظور ماركي دو ساد، عندما يصف الله بأنه شرير. والله اعطانا الشر باعتبارها طريقتنا الوحيدة الممكنة نحو الخلاص.
«لقد فهمت أخيراً ما كل هذا، وكيف كل كان كل شيء ممكناً. الآن أرى، يا رب جيداً، كيف يجب أن ننظر من هناك. إدماننا شرير. النزعة لهذا الشر تكمن في ضعفنا امامه. كان كيركغور على حق – فهناك شفا هوة مروعة أمامنا. لكنه كان مخطئاً بشأن القفزة – هناك فرق بين القفز وبين أن يدفعك أحد. تصل إلى نقطة تضطر فيها إلى مواجهة احتياجاتك الخاصة، وحقيقة أنك لا تستطيع أن تنهي المسألة، فتستقر عليك بكامل قوتها» تنطق كاثلين هذه الكلمات أثناء النظر في صور إحدى أكثر ابادة جماعية بشاعة. في النهاية يوضح فيرّارا لنا كل شيء بجملة صغيرة، واضحة المعاني ولكن تفسيرها استغرق ساعات الفيلم كلها «معرفة الذات هي تدمير الذات».