سواء كان أدباً، أو شعراً، أو نثراً، أو موسيقى، أو نحتاً، أو رواية أو غيرها؟ هل تغيرت طبيعة استقبال سؤال الفن وتوجهاته بعد كوفيد ١٩؟ وهل يمكن كلام محدد أن يستعرض إجابات بعينها على سؤال الجمال؟ بكلام آخر، هل من تعريف لقدرة الفنان المعاصر ليخوض بالفن مجيباً على اسئله الحياة والموت عند الفرد أو سؤال الوجود والعدم عند البشر كمجموعة يتوجه لها من ينتج المعرفة الفنية بهدف تمريرها للاجيال القادمة بعدكوفيد ١٩ كما كان قبلها؟ كثيراً ما يُفاجَئْ الفنانون الكبار بسؤال محير يطالبهم فيه الناس بإجابات محددة لماهيّة الفن؟ كيف يبدأ والى اين يصل، ودوره بعد كورونا؟ سيكون حرفة أكثر منه موهبة؟ وماذا غدت مهماته الآن؟ هل تغيرت عناصر الشعرية ورموزها السابقة؟هل سيتوجه التأليف الى الحضور المتحد كمجموع أم كتباعد اجتماعي؟ ورغم أنّ الاجابات ما زالت تفتقد القدرة على الحسم كوني ورغم اني لست بشاعر محترف ومتخصص، لكنني لست مقتنعاً بِإجابات أكثر الشعراء على هذا السؤال سواء بإجاباتهم له قبل الحجر او بعده. ورغم كوني لا ادري كيف اجيب على هذه الاسئلة الصعبة بقناعات ثابتة خلخلها فيروس ميكروسكوبي صغير، ولكني اعتقد أنّ الشعر والفن سيبقى دائماً يحمل طابعه المُلَغَّزْ بكونه عبارة عن مجموعة اشياء وإجابات لأسئلة سأحاول إعادة تحديدها بصياغة جديدة كإقتراحات أجوبة لا اكثر ولا اقل. أهم هذه الاجابات بأنها سحر لا يُداهِم إلا شخصاً مؤهلاً ليتلقّاه، فاذا لم يتلقفه بحب واقتدار، فسيتركه فوراً كوحي فني ويتوجّه الى فنان آخر يسحر فيه مراده. لكن ليصبح الشعر شعراً والفن فناً، عليك في الدرجة الاولى أن تتلقفه بما يوازيه من شفافية روح الدهشة، وتفرح بحلوله عليك، كأن روح انثى خارقة الجمال حلّت تستمزج خيالك وانت مبهور ومسحور تتَلقُفَها لتحتفل بتجميلها باكثر الفساتين وردية واشراقاً، وبأرقى الموديلات المبتكرة من ازياء الادب والشعر والنثر، أو بدقة عزف اجمل التأليفات الموسيقيه توقاً للإبداع. ولكن قد تصدمك غالباً حقيقة أنّ أجمل موديلات هذه الفساتين وأكثرها شعرية ورحابة في التعبير الادبي أو الموسيقى قد لا يناسبها ابداً مهما بلغت درجة الابتكار فيها رونقاً ورحابة، وأنه عليك أن تتقبل فكرة بقائها بعريها الذي أتتك فيه أول مرة، لان أي جمال آخر مهما برعت بإضافته فوق جمالها الأولي قد يفسد ما أبدعه الله فيها من سحر ، فاقبل الامر فوراً وابتعد عن الغيرة ودواعي الرغبة بالمعاصرة، لأن الفن يفقد كل عناصر وملامح ايقاع جمالياته اذا حاولت اقتناءه وأسره في آرائك واجتهاداتك مهما كانت عميقة. لماذا؟ السبب بسيط ينحصر بأن سره إذن في تنوعه وشيوعيته وانتشاره، كمثل اريج زهرة الغواية التي تحملها وتهديها بنفسها ورضاها للريح كهدية بلا مقابل قبل أن تغادرنا متلاشية في الرحيل، لتنثره تلك الريح لاحقاً بسفرها في الكون عبر تنوّع البقاع والمناخات والعوالم اولاً ، ومن خلال تنوّع اذواق وحواس البشر المستقبلين لها بالروح والفكر والفن ثانياً، فتنثر بذلك عبائرها في المخيال العام لتنوع الذاكرة الجمعية الجمالية لاذواق الشعوب والأعراق، وتتنوع بهم وبوتائر غِنى هذا التنوّع، فَتُؤتى به ثمارها المتجددة، بهذا بالتفاعل الجمعي المختلف بتنوع أصناف الادب وتنوع مفاهيمه وتعدد الوان الهَوِيّات الموسيقية التي قد تبدأ من المونوتون ولا تنتهي بأكثر انواع البوليفونيا تعقيداً وثراءً، مع استمرار تأثير شيوع وتنوع سحر هذه الظاهره العجيبه بغموضها بطرق مختلفه لا طاقه لاحد على فهم حركتها الداخليه هذه و تخيُّلها ، يجب أن تدع عنِك مشاعرالغيره وتقبل هذا السحر كما هو دون ان تحاول المساومه عليه ابداً ! . اما اذا ما حصل وتوجّه لك الشعر أو الفن عموماً بعد كورونا ١٩ بسؤال ما، فإياك والاجابة عليه كما كانت إجابات قبل كورونا مهما كنت مقتدراً او كانت ثقتك بنفسك عالية، بل اترك للإجابة ابوابها الكثيرة المفتوحة ليدخل اليها هواء التنوع في التفرّد والمحليه، ليسرح عبرها الحب وهو يستعرض سحره الخاص في الغموض البعيد عن العولمة وقيودها. سر جمال الشعر والموسيقى والفن عموماً لا يحيا ويزدهر إلا في قوة غموضه المفتوحة على محلية لا تدّعي عالمية مُفتَرَضَة بل ستبقى مُغلَقة باتساعها المفتوح على اختلاف تجاوبها بمعاناتها بالظروف التي تتحكم بتغيّر مناخات المعاناة الانسانية وتأثيرها على تغييرات الذوق اكثر بكثير مما سيبقى فيه أحدانا حراً في رتابة الوضوح العالمي وسهولته. وتذكر أنّ الفن والشعر تربته ليست الارض ولا الرمال، بل هي السماء والرياح والنسيم والنور والشمس والفصول وعبائر السهول والزهور والقمر والليل والنجوم واتساع الكون على احتمالات اتساعه وانغلاقه بخصوصية المعاناة التي تبدع محليتها لتصبح مُعَوْلَمَة بها وبخصوصية محليتها فقط. سر هذه العناصر يقطن في حيوية تفاعله انطلاقاً من محليته في لا محدودية الخلق المفتوح على سر الخالق المتعدد بعدد خَلْقِه وخصوصيتهم في استقبال الجمال والاحتفال به واعادة تدوير مفاهيمه بتغيّر ظروف المعاناة التي تحملها تغييرات المفاهيم بتغييرات ما تسببه احداث جسيمة مثل كورونا. وعبر هذا الاتساع اللامتناهي في الكون، سيبقى الفن يسعى في غموض إعادة تدوير هذه الاحداث والمفاهيم بقناعات جدوى مواجهتها جمالياً بسر أصوات الناس وحساسيتهم لكل عصر، وستبقى اي محاولة فردية للقبض عليها بتعريف هنا وتحديد هناك بعيدة عن الواقع وستصيب جماله بالوهن والرتابة والترهّل. الفن بلا ادنى شك يرفض العمر والتعريف والتأطير والحدود. تذكر أنّ اول الفن والشعر والموسيقى هو السؤال، وآخره سيبقى ايضاً في السؤال فقط. وبين سؤال وسؤال ستسقط أجوبة كثيرة يتبناها هذا القطيع او ذاك. أسئلة كثيرة ستضمخل امام أكثرها دقة في ملامستها للسهل الممتنع. بينهما ستسعى الاجوبة المعقدة بعالمية التعميمات المفروضة بنظام عالمي جديد، أو ربيع عربي كاذب ساقطه في سعيها عبر اللاوصول الى جواب واحد أحد، سرّ الحياة سيبقى ابداً في كون الجواب لامنتهياً في المُنْجَزْ . لاوصول فيه في قناعات نهائية ثابتة عبر ديمومة مسيرة الجمال الانسانية!
واجمل ما في هذا اللغز هو سر الحياة والموت الذي استطاع أن يُعبّر عنه الاخوان عاصي ومنصور الرحباني في عملهما الرائع «جسر القمر» ليُلْبِسا به الاسئلة أجمل فساتينها تلوّناً بالعمق والاتساع الذي يزهو فوق غموض السهل الممتنع. السهل الممتنع الذي لم يتكبّر على البسطاء في الارض ولم يتنازل عن الفخامة والموهبة في المنجز الذي أرسي ثماره التي عممها في عبقرية الفنانين المتخصصين الكبار الذين اتوا بعدهم. بطيب هذه الثمار، استرسل الاخوان رحباني يتوسلان الاجابات المتنوعة على سؤال الوجود والعدم بتنويعات اجاباتهم المفتوحة على تيمات الحب والحرية. لعل تفاعل تنويعاتهما بالشعر والتلحين والتأليف الفني بصوت الناس العاديين (أو ما يجمعها في انسحاب البلاغة الفنية للكلمة المفتوحة على اختها النغمة) وهي تروي تفاعل أخويتها على عدد كبير من مواضيع وتيمات المسرح الغنائي حيث وقف الضمير الرحباني الجمعي المتعطش للنور والمعرفة والحب. لنأخذ مثالاً لنا في هذه العجالة في مسرحيتهم الغنائية الاولى «جسر القمر» متمثلاً الكورال يغني باسم الضمير الجمعي الذي وقف دائماً خلف صوت سيدتنا الاولى فيروز تضفي سر صوتها الرحباني وهو ليملأ افق الذاكرة الجمعية لضمير الناس المتلهفين للاحتفال بجماليات المعرفة التي قدمها لهم بحبّ فن عاصي ومنصور اللامسبوق بسرهما، وهو يغني خلف كورس جسر القمر، مطارداً اجوبة تلك الاسئلة الاساسية المُلِحّة التي جئنا الى هذه الحياة كأفراد ليجيب عليها كل منا بايقاع جوابه، ملتزماً كفرد بضمير المجموع وهو يغني محتفلاً بوعيه وهو يلتقط نبض الاسئلة بارقى صياغاتها. صياغات رحبانية تربط الضمير بانسجام وتآخي عناصر الحقائق على ايقاع موسيقي ينهض عليه الكورال صوتاً واحداً بغناء البلاغة الشعرية فلسفياً ببساطة صادحة:
- بدنا نعرف .. سر الاشيا
معنى الاشيا شولّي مخبى؟
شولّلي بهالعتمه بيرفرف ؟
بدنا نعرف ! نحن جينا لنعرف!
- بدنا نعرف كيف ؟منين ؟ لوين ؟ وشو هيي؟
كيف بتبدا وكيف بتخلص كل الخبريه ؟
والاشيا لبتصير تراقب خلف السهريه
وبتهدر بالليل وتبكي وصوتا بخوِّف
- بدنا نعرف لمّا منغفى مين للّي بيوعى ؟
وبصير يدبِّك بدعسه منهاش مسموعه
بدنا نعرف ! نحن جينا لنعرف .......