الطريق إلى جبل الأولمب
شوقي بزيع
لا أعتقد أن بوسع المرء أن يهمّش قضية تحرير الجنوب أو يغفل تلك اللحظة التي فصلت بين مرحلتين من حياتنا جميعاً. في الفترة التي سبقت عام ٢٠٠٠ أتيح لي على امتداد عقود من الزمن أن أعايش كل المكابدات التي تعرّض لها أهلنا هناك والتي كنا جزءاً منها، حيث بعد تخرجي من الجامعة كنت أعمل أستاذاً للّغة العربية في ثانوية صور الرسمية. لا أذكر على وجه التحديد عدد المرات التي تعرّضَت فيها مدينة صور للقصف، والتي نزلنا فيها إلى مداخل البنايات، التي تشبه الملاجئ إلى حدّ ما، أو المرات التي كنت أذهب فيها إلى قريتَي زبقين في الجنوب ولا أصِل، أعود القهقرى من حيث جئت. وإذا حدث أن وصلت، فلا أعرف متى يبدأ القصف ومتى ينتهي، فلا سقوف هناك تظلّل الناس، ولا ملاجئ. وإذا كان لنا أن نرسم خريطة لعدد المرّات التي قطعها الجنوبيون باتجاه بيروت أو مناطق أخرى وهم يتعرّضون للتهجير بفعل الاجتياحات المتعاقبة، والقصف المتواصل، أو عدد المرّات التي عادوا فيها من جديد إلى قراهم، لحصلنا على ما يشبه المتاهة التي لا أوّل لها ولا آخر، وعلى كمّ لا يُحصى من القهر والعذابات، من الخوف والإذلال والوجع، الناس الذين فقدناهم، كل هذه الأشياء أتذكرها الآن وأنا أستعيد لحظة التحرير، هذه اللحظة التي تبدو قادمة من المتخيَّل الجمعي، من الأساطير والملاحم.
بعد عشرين عاماً من التحرير، ونحن نعايش الآن هذا التقهقر المرعب في حياة الوطن، ونحن نرى بلدنا ينهار على من فيه، واقتصادنا متداعياً والجوع والفقر في كل مكان، نرى سلطة سياسية لا تكّف عن نشر أوبئتها وفسادها في ربوع الوطن وأصقاعه، فلا بدّ لنا من أن نسأل: أمن أجل هذا دفعنا ثمن تحرير الوطن؟ هل ينفع أو يستقيم تحرير الأرض مع استعباد الإنسان؟ ولذلك أشعر بأنّ هذا التحرير الآن مثلوم ومهدّد بأن يُسلب منه معناه. يبدو الوضع من هذه الناحية أكثر إيلاماً مما كان عليه قبل التحرير، والسبب أن طعنة العدو تجرح الصدر ولكن طعنة الصديق تجرح القلب، أن نجرحَ من بيت أبينا، من هؤلاء الذين كان عليهم أن يحموا شعبهم ويقدّروا نضالاتهم، وأن يقفوا إلى جانبه ويوفّروا له حياةً هانئة وكريمة، هؤلاء هم من سلبوه كلّ حقوقه وصادروا ممتلكاته ونهبوا ثرواته والآن يريدون أن يتنصلوا من كلّ شيء، وأتذكر قول الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في سياق انتقاده لبعض ممارسات السلطة في الداخل ورصاص الاحتلال والأنظمة العميلة: «ما الفرق بين رصاصة ورصاصةٍ ما دامتا تصلان رأسي؟». ختاماً، أحيي كل الذين ضحوا في سبيل تحرير الأرض، من الرصاصة الأولى التي أطلقها الفلسطينيون في الستينات، إلى شهداء المقاومة الوطنية وانتهاء بشهداء المقاومة الإسلامية، أقول بأن المعركة الأهم الآن هي الدفاع عن المكتسبات والوقوف إلى جانب شعبنا الذي لم يبخل بثروته ودمه وحياته ودموعه، ولذلك فالمقاومة معنيّة بالوقوف مع كلّ من يقول بأن تحرير الأرض لا يلغي دورنا في مقاومة الداخل ومحاربة الفساد، فالمقاومة ليست مجبرة على الاختيار بين محاربة عدو الداخل وعدو الخارج، وهي تعرف أن ظهيرها الشعبي سيكون معرّضاً للكسر إذا استمرّ الأمر على ما هو عليه. إن معرض الدفاع عن الشعب اللبناني وقيمه وكرامته هو معركة أساسية ولا تتم إلّا بتغيير جذري للطبقة السياسية المتحالفة مع رأس المال والمصارف والمترفين المتربعين على عرش السُلطة.
الجغرافيا المحرّرة... الوطن المريض
محمد علي شمس الدين
أراها تطلّ برأسها من الشبابيك والنوافذ ومن عيون المقهورين في الشوارع والساحات وأمام كوى البنوك واللصوص والصكوك وعلى عتبات السارقين ومجالس الحكم والطوائف المتجبرين الرابخين على الجغرافيا المحرّرة على صدر شعب بكامله.
هل يمكن أن نتكلّم على وطن محرّر من المحتل الإسرائيلي وعليه مواطنون مقيّدون بسلاسل مذاهبهم وتبعياتهم ويعيدون إنتاج عبوديتهم بمواعيد محدّدة في مواسم التزكية وتثبيت التبعية والولاء؟
هل بالإمكان الآن وبعد مرور عشرين عاماً وفوضى وكورونا على تحرير الجنوب أن أقول مطمئناً: إننا مواطنون أحرار على جغرافيا حرة؟
إنه السؤال الشكّاك، نعم...
حين قدح الشرر الإلهي لمهر المقاومة على الحدود وارتعد من هوله ودقته ووضوحه جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين أخضعوا الأرض الجنوبية خمسة وعشرين عاماً للاستعباد، كنا على تخوم الشريط نرى أن قمحاً جديداً سيطلع من الحقول وتبغاً جديداً وشجراً آخر ينمو وأن مياهاً أخرى تدفقت في النهرين وسماء أخرى حررها برق المقاومة ستنفتح للنظر. كنت أرى أطفالاً آخرين سيولدون وشعباً آخر سيتكوّن مع التحرير. كنت أستطيع أن أحدّد أيار ذاك حدود الجغرافيا المحرّرة بالسنتيمترات، وبحجارة القرى ورعاة الأغنام على الأرض الحرة، وأقول إنّ دماً أريق قرب هذه الشجرة وعند تلك الصخرة وفي هذا الوادي والمَسيل من الماء ودون هؤلاء الأطفال والنساء والشيوخ والرجال ممن كانوا يعيشون قلق الحرية والكرامة، لا بدّ سيشرق فجره. جاءت المقاومة وفتحت باباً واسعاً لأسئلتي أن تنهض... لكن هل أستطيع أن أقول الآن الجملة الخطيرة التالية: نحن اللبنانيين الآن وفي هذه اللحظة بالذات شعب مستعبد يعيش على جغرافيا محرّرة بطوائفنا وسياسيينا وحكّامنا ومفسدينا والسارقين الناهبين قاهرينا وجلادينا بأيدينا واختيارنا.
إن المشكلة تكمن في لبّ العظم الطائفي الذي يجب تحريره مع الأرض إن لم يكن قبلها، وأننا شعب مستعبَد يعيش على جغرافيا محررة، وأنّ أقنعة مثيرة للاستعباد تتوالى على هذه الجغرافيا المحروسة بسلاح المقاومة، وأنّه من العبث أن نفرح بالتحرير تحريراً كاملاً منجزاً وبقوة السلاح الرادع والمرعب لإسرائيل... وأبعد. إذا لم تتحرّر نفوس اللبنانيين من سلاسل الطائفية والتبعية السياسية والتنافس على نهب خيرات الجغرافيا المحرّرة وتقاسمها بعناوين كثيرة ـ لكن الجوهر واحد ـ لا يمكن أن يكون الجسد حراً والروح مخرَّبة.