تخافي سالم غفيان، مش بردان، نايم ع تلّة»
ف تضاريس الجبل الرفيع كما أعرف كفّ يدي هذه، أحفظه عن ظهر قلب، وحين يأتي وافد جديد ليلتحق بمجموعتي الصغيرة التي أرهقت الإسرائيلي في تلك الفترة من أوائل التسعينيات، لم أكن بحاجة إلى أن أفرد الخريطة على الطاولة وأحدّد نقاطنا بالقلم والمسطرة. كان يكفي أن أبسط ظاهر كفّ يدي بوضعية مسطّحة وأرفع الأصابع الأربعة وفق زاوية «تسعين»: هذه «عربصاليم» من جهة الزند، الشق في وسط اليد في المنخفض، هو نهر الزهراني في أسفل الوادي، والأصابع الأربعة المنتصبة هي الجبل الرفيع. ندخل بعتادنا ورجالنا بالسيارة الفولفو من جهة عربصاليم المحرّرة. نركن السيارة في ظل شجرة الجوز قرب بيت الحاجة أم فايز، وتسرح البنادق والرجال باتجاه النهر. من نزلة «أم فايز» ذاتها، جدّتي أم سالم كانت تنزل بـ «اللكن» وصابون الغار في الزمان الغابر، لتوقد النار وتغسل ثياب العائلة وأكياس لبنة الماعز الفارغة. ولوعورة الطريق، كنّا نتندّر أن الغسيل الذي نظّف للتوّ يتّسخ ثانية بالغبار عند الصعود، فتصل جدتي الى الأعلى وتسبّ للنهر والغسيل و«العَزارة». لم أحقد يوماً على النهر كما فعلت ستي أم سالم، لكني عاتبته بمرارة مرّة وحيدة، كان ذلك حين أخذ بمصطفى. وصلت مجموعة من الشباب «البيارتة» يومها، كان علينا أن نعبر النهر في منتصف كانون، والنهر «حامل»، النقطة الآمنة للعبور والتي لا تكشفها طيارة «أم كامل» اللعينة تقوم حيث يزمجر النهر شتاء فوق أمتار أربعة مثل دابة جريحة. خاف الشاب البيروتي يومها، إذ كان عليه أن يقفز بحمولة الظهر التي تزن حوالى أربعين كيلوغراماً من صخرة لصخرة في قفزة مهولة. ساد الصمت لدقيقة وخاف مصطفى أن ترصد الطائرة حركة المجموعة الصغيرة. أخذ العتاد من الشاب البيروتي وضمّه لعتاده، تعثّرت رِجل مصطفى وهو يقفز وأخذه النهر: عثرنا عليه بعد يومين غافياً للأبد بين صخرتين. انحسر النهر بعدها معتذراً عن خطأ الطبيعة، فسامحته. في طفولتي، كنت أطارد الحجلة. خالي عفيف الذي أهداني البندقية قال لي يومها: تعلّم أن تنظر في الشجر والصخور، الحجلة تحب الأعالي. وحين تصوّب عليها بـ«الجفت»، طوّع رأسك وكتفك مع حركة الطير. لم تخذلني هذه النصيحة حين تم تعيين عميرام ليڤين قائداً لمنطقة شمال النهر في جيش العدو.


سالم عبّود الذي استُشهد عام 1996 في جبل الرفيع ــــ إقليم التفاح

كانت اللعبة بيننا وبين الإسرائيلي في الرفيع في الكمائن أشبه بـ«يلّي سبق شمّ الحبق». لفترة طويلة، كنت أعرف بالحدس أين يكمن جنود «غولاني»، عند أي منطقة كاشفة في الجبل والجوار: «ربعة الجبل»، «قبو الحاجة عفيفة»، «البيّورة» أو بئر الماء الصغيرة عند «خلّة البير». حين تسلّمَ عميرام ليڤين الملقب بـ«الأرنب» مهامه، صار عدد شهدائنا يتضاعف في الكمائن. ثبّتت المنظار على عينيّ وحدّقت مليّاً في تفاصيل الجبل، من أسفل موقع سجد حتى «الحريق» في الجهة الجنوبية. في المساء، استدعيت كل تشكيلات المقاومة في الرفيع: «حدّقوا ملياً في الأشجار. هذه الشجرة قرب «الربعة الجوانية» مثلاً، ارصدها يا فايز ولو تطلب الأمر أن تراقبها يوماً بكامله». بعد انقضاء ساعات ست، وحين همّ فايز بإنزال المنظار عن الشجرة، وبعدما حفظ عدد العصافير التي تدخل إليها أو تخرج منها، لاحظ فايز أن «فند الشجرة» يتحرّك. أمطره بوابل من الرصاص. وفي اليوم التالي، أعلن العدو مقتل اثنين من «غولاني»، فقلبنا الطاولة على ليفين. بين ليفين وكمائن الرفيع، كدت أنسى «عبد الله»، ولدي الصغير الذي أعطتني أمه صورة شمسية له التُقطت عند «عامر» المصور. كنت «أنوضر» أحياناً من نقطة لنا في الجبل تسمى «نقطة المقاومة المؤمنة» على بيت جد عبد الله لأمّه عند بيدر عربصاليم المقابل. أحدّق مليّاً في الصورة «آه لو تحملك أمك في حضنها وتخرج للشرفة الآن». أنتظر قليلاً وأعيد الصورة الى جيب الجعبة. من «نقطة المؤمنة» الى نقطة آمنة في الرفيع تسمى «الاستراحة» مسافة مكشوفة من مئتي متر لموقع السويداء. كان علينا أن نقطع تلك المسافة في أول الفجر حين ترسل سجد لنا ضبابها، فتدخل مجموعاتنا تحت جناحه زرافات ووحداناً نحو الاستراحة. أدخلنا مرّة في الضباب مدفع ١٠٦ يزن أكثر من مئة كيلوغرام ليجنّ جنون الإسرائيلي الذي لم يعرف كيف تنهال عليه القذائف وعلى دشمه من مسافة قريبة. ذلك النهار من ١٩٩٦، عرف العدو بأمر إحدى مجموعاتنا في الجبل: لعلّها «أم كامل» أو طائرة الاستطلاع في الجو، أو أن العدو قد تنصّت على موجة اللاسلكي الخاصة بالمجموعة. أغار المروحي على «الرفيع» بكثرة. استشهد مقاومان وتُركت الأعتدة في المسافة المكشوفة بين نقطة «المؤمنة» و«الاستراحة». في مساء اليوم التالي، كان القرار قد اتخذ بالمشورة مع غرفة عمليات المقاومة: «لا يمكن لأحد غير سالم عبود أن يسحب ذلك العتاد من الجبل». انطلقت قبل منتصف الليل بمجموعة تضمّني الى ابراهيم عيسى ومقاومين آخرين. كنت متيقّناً أن العدو يكمن على العتاد وينتظرنا فوق المسافة الجرداء بين النقطتين. حددت على كفي مربّع الكمين: انظروا، سيكمن ليڤين وجنود غولاني على شكل حرف L من نقطة عالية، ليس علينا سوى أن نلتفّ على «شير الغرابات»، ونكسر الكمين من جهته اليسرى. تجاوزتُ الشير الذي كانت تقف عليه الغربان دائماً وانتصبت فوقي «شقفان الهوا»، حيث كان الهواء يلعب لعبته المفضلة مع السنديان في أعلى الرفيع. استدرت يميناً وكنت أقدّر أن بداية الكمين ستكون بعد حوالى مئة متر من النقطة التي أقف عليها الآن، إذ ظهرت صخرة مجوّفة كنا نسميها «الحضن» أمام نظري تماماً. أشرت لإبراهيم أنني سأتّجه الى الصخرة وسأعطيه «إحداثية» حول تموضع الكمين. حدّقت في الشجرة القريبة واستحضرت مباشرة ما قلته لفايز: كان القنّاص الإسرائيلي على بعد أمتار عشرين، فعرفت أننا في «فم التنين». كشفتُ الكمين وكشفني: في علم «العسكر» قاعدة في غاية البساطة: حين يفتضح أمر كمين محكم، فهذا يعني فشله تماماً، لكن في المقابل فرص النجاة لمجموعة صغيرة في وجه كتيبة كاملة تكاد تكون معدومة. أشرت لإبراهيم أن يأمر الشابين الآخرين بالرجوع، وفتحتُ النار على الكمين. بدأت النيران من بنادق الـ M 18 تنهمر عليّ كالمطر، تقدّم إبراهيم ليساندني فعالجه القناص برصاصة في وجهه.
حملوا نعش سالم عبود وطافوا به في أزقّة عربصاليم. كان «الحاج خليل» من الإسعاف الحربي قد تمكن من سحب الجثتين.
‎من مشاهد الغسل والدفن:
‎ــــ الأرجل ممتلئة بالـ«خردق» والشظايا.
‎ــــ الإصابات في الصدر، إذ إن «المقنبلات» فجّرت الرصاص الذي كان في الجيب.
‎ــــ المعطف الأخضر النايلون بقيت منه قطعة فوق شجرة السنديان.
يقول الحاج خليل إنه وجد في جيب المعطف صورة صغيرة، تبلّلت بالدم. كان عبد الله بين أحضان أمّه على شرفة الجد عند البيدر في السابعة صباحاً يشير بيده الصغيرة نحو الجبل، يبسطها فيرى عربصاليم من ناحية الزند، خطٌ في العمق فيه نهر الزهراني، وفوق الأصابع الأربعة بزاوية تسعين جبل الرفيع وفوقه رجلٌ يحمل حجلة ويلوّح له من بعيد.

‎حين ظهر الجنّي عند عين عقماتا
(أيوب يروي)
‎جفّتْ بركة سجد في آب من ذلك العام. كنا نشرب منها نحن والطرش والأفاعي وكل ما يطير بجناحين، والنحل الذي يهجر بيوته في الجبال القريبة، ليأتي أسراباً يشرب وينتشي، وقطعان الخنازير البرية التي تشق طريقها للماء قبل الفجر بقليل. أقرب مصدرين للماء كانا من «عين الكبيرة» في الريحان، أو من «عين عقماتا» ذات الدرب الوعرة بين صخور الجبل. صار عرفاً في «آب اللهاب» ذاك أن نركب البغال ونذهب في طلب الماء، ليلةً من عين الكبيرة وليلةً من عقماتا. كنت في العاشرة، حين أيقظني أبي وسحبني من فراشي الممدود فوق زريبة الطرش، وقال لي إنهم ينتظرونني في الخارج. وضعت «التنكات» الأربع الفارغة على جانبي البغلة بالتساوي وتبعتهم. تقدم الركب أمامي بمسافة معتبرة. كانت بغلة أبي «حردانة» قليلاً في تلك الفترة، ربما لافتقادها رفيقاتها عند البركة. وصلت الى نقطة غابت فيها آخر بيوت سجد، وكان عليّ أن أتخذ قراراً، بعدما ناديت على القافلة، فلم أسمع جواباً: إكمال السير على «الكرّوسة» يعني الاتجاه نحو عين الكبيرة، والانعطاف يميناً في «الخلّة» المظلمة التي يحجب سنديانها المرصوص ضوء القمر يعني السير نحو عقماتا. قلت في نفسي: «بالأمس ذهبوا إلى العين الكبيرة، لا بد أن اليوم الدور على عقماتا». وجدت نفسي بعد ساعة وحيداً تحت مزراب عقماتا. في ليلة كان القمر الطالع من فوق جبل الشيخ ينكسر هو الآخر فوق الماء النازل من بركة العين في المزراب نحو التنكة. أمسكت طرف الوعاء بحذر، إذ سمعت أبي وجارنا حسن يحيى يتحدثان عن جنّي اسمه «لا مساس»، هو سامري موسى بذاته يظهر من وقت لآخر بين «درب العين» و«مرج الحمى». امتلأت التنكة حتى النصف، وإذا بي أسمع وقع خطى قريبة، «إنه السامري بعِجل له خوار، بسم الله الرحمن الرحيم»، ولكن ألم ينسفه موسى في اليمّ نسفاً؟ كما أخبرنا الشيخ أسد الله الذي كان يعلّمنا تحت السنديانة؟ رفعت برأسي لأجده فوقي تماماً: رجل بشاربين معقوفين وكوفية عربية، يحمل بارودة «معدّلة» على كتفه و«قشاط» من الرصاص، وينتعل جزمة من الكاوتشوك. «بدك ساعدك يا أخ؟»، قالها لي بلكنة بعلبكية خالصة. قرّت عيني قليلاً، إذ لم أسمع قط أن «لا مساس» يحب الصفيحة البعلبكية. «أنا بو مشهور»، أضاف، «مين أنت؟» قلت له «إني ابن محمد أحمد ن. من سجد».

عمل للفنّان حسين ناصر الدين

حمل التنكات الفارغة، اثنتين اثنتين، بقبضتيه القويتين، ملأها غَرفاً من ماء البركة مباشرة، وضعها فوق البغلة وحملني فوق السرج وقال: «سلّم على أبيك». حين عدت إلى البيت كنت ما زلت أزرق اللون. ‎أخبرت أبي بالقصة، فضحِك. «إنه أبو مشهور، أحد نواطير الأحراج، من أولاد عمنا البعلبكية». صار أبو مشهور يتردد على القرية، وكان أبي أو المختار يستضيفانه لـ«ينوطر» على الكروم.
‎في ذلك النهار، كانت آمنة تقصد «عينة» الماعز التي يعمل فيها أهلها خلف ربعة الجبل. تأخذ آمنة الطعام في «البقجة» في طريق الذهاب، وتحمل في «قفة» على رأسها «الحليب» و«اللبا» و«القريشة» في طريق العودة. كان الضباب يومها قد وصل «جوار الغيم» أي سجد بالغيم، وضاعت آمنة في الضباب. خرج رجلٌ من المعطف الأبيض للطبيعة: «هيئتك ضايعة يا بنتي، رح امشي قدامك، الحقيني». أوصلها أبو مشهور الى عتبة دارها وغاب.
‎في اليوم التالي، حضر عم آمنة الى بيت المختار. «لا نريد بيننا غريباً يتبع النساء»، قال مصطفى. أجمعت القرية على طرد أبي مشهور، وقبل أن يذهب حسن على البغلة ليبلغه القرار، أطل الرجل من بعيد. «إجا والله جابو». «سلام عليكم». لم يرد الجمع السلام. رمى السلام ثانية وقال: «لماذا لا تجيبون؟». عاجله مصطفى: «نحن لا نسلّم على من يعتدي على أعراضنا». نزع أبو مشهور «البارودة المعدّلة» وقشاط الرصاص ورماها نحونا: «هذه قصة كبيرة، وفي أعرافنا لو ثبتت التهمة حاكموني بإطلاق الرصاص على صدري مباشرة». أخبروه عن آمنة، قال نادوها واسألوها إن كنت مشيت خلفها فاقتلوني، وإن كانت هي التي مشت خلفي فستعيدون لي البارودة. أتت آمنة وقالت إنها مشت خلفه، وإنها اخترعت القصة برمّتها لأنها ملّت من أشواط العمل المجهد وحمل الحليب بين البيت و«عينة المعزى». سحب أبو مشهور بندقيته من أمامنا ولم يره أحد في سجد بعدها ولا حتى في كروم القرى المجاورة. آخر الطلقات من تلك البندقية «المعدّلة» زغردت في المالكية، مع الثلة التي قاتلت الهاغاناه مع النقيب محمد زغيب واستشهدت بالقرب من سهل الحولة عام ١٩٤٨. تقول الحكاية إنه عند عين عقماتا، يظهر حتى اليوم رجلٌ تحت ضوء القمر يضع الماء على الدواب، ويرسلها للعطاشى وللطيور وأسراب النحل وبيوتها في الجبال البعيدة.

‎حين حكيت للبولوني عن حيفا
(الحاج محمد زين ش يروي)

‎ــــ «افتح باب مخرّب». كان ذلك أيام القبضة الحديدية الشهيرة في الجنوب اللبناني، ١٩٨٥. دخل «شيمون» أو شمعون برفقة مسؤول الأمن في جيش لحد فارس أبو سمرا حارتنا الواقعة بين نزلة النهر وحارة نجد التي سميت بذلك منذ أخذ العسكر العثملي ثلة منها الى السفربرلك في الحجاز واشتهرت بذلك أغنيتها التي يرددها الكل في بلدتنا (يا حارة نجد بدك بوّابي/ عمنّو فيكي ملقى الشبابي). سمعتُ صراخاً من الطابق الأعلى أيضاً، زوجة ابني البكر، الحاجة فاطمة، أصرّت على أن يخلعوا «الرينجيرات» قبل أن يدخلوا لتفتيش البيت، إذ كانت قد «شطفت» هذا الصباح. بين صراخ الحاجة فاطمة والنداء على «المخرب»، وجدت حربة البندقية في وسط صدري تماماً. «امشِ قدامي مخرب.» زوجتي الحاجة مريم هي الوحيدة التي كانت تقول إني أخرّب عليها ساعة النوافل حين «أغرغرها» إن أطالت الصلاة المستحبة، ولم أعرف لماذا نعتني شيمون الأبرص بهذه الصفة. أخذوني الى أول نزلة النهر، أخذ العميل أبو سمرا «الأقسام» من بندقيته وقال لي: «مرقوا المخربين من هون عن اليمين ــــ لوين بتودي هالطريق؟ قول أو بقوصك». نظرت في عين شيمون وقلت بالعبرية: «إلى حيفا». صرخ بي شيمون: «أنت بتعرف حيفا مخرّب؟» أجبته مباشرة: «هذه الطريق تقود الى شارع تل هاشومير». ذهل الأبرص حين قلت له إني أعرف حيفا أكثر منه، واشترطت عليه أن يأمر كلبه ــــ هكذا اسميته بالاسم ــــ أن ينزل بندقيته عن وجهي.
‎كانت سنة قاسية في الثلاثينيات، ترحّمنا فيها على الجراد. أم علي حامل بـ«أسمى»، ولم نكن لنجد في حينها قوت يومنا. بعنا «شقفة» أرض في «المحافر» واشترينا بغلة نزلت بنا من وادي كفررمان حتى الخردلي، ومن الخردلي حتى ميس الجبل، فبنت جبيل حيث غنّت الحاجة مريم:

«يا بنت جبيل فيكي الفرفحيني
‎فيكي الكحل للعين اليميني»

‎بعدها دخلنا فلسطين، يرافقنا الحاج ابراهيم الحلونجي، الذي كان صاحب الفكرة بالرحيل عن جبل عامل الى حيفا. عشنا في حيفا أياماً عجافاً، كنت حديث العهد بصناعة «السمسمية»، وشوارع حيفا تضج بـ«الحلونجية» القادمين من كل حدب وصوب. قررت في ذلك الصباح أن أدخل شارع هاشومير، شارع اللصوص و«النصابين» في حيفا، ووضعت بسطة «السمسمية» على الرصيف. تقدّم أحد أولاد اليهود بحذر من «البسطة»، ليسرق حبة مطلية بالسكر ويهرول مسرعاً نحو السوق المزدحم، فيتعثر بحجر في الطريق. رفعته عن الأرض فتوسّلني ألّا أؤذيه، قلت له تعال، سأعطيك حبة ثانية، لكن سأخبرك من أين أحضرت هذه السمسمية. إنها من عند النبي سجد (تسيفانيا). كان اليهود يحضرون في الفصح من كل عام لزيارة مقام سجد القابع على أعلى تلة فوق القرية. جمدت حبة السمسمية في حلق الصبي. «انتظر قليلاً»، قال لي وهو يركض. بعد دقائق وقف أولاد اليهود في الطابور أمام البسطة. كان أحدهم يضع قرش العثملي على الطاولة ويأخذ حبة من السمسمية. «نفقت» البسطة قبل منتصف النهار وعدت إلى البيت وجيب «الوزرة» البيضاء طافح حتى آخره بالقروش العثملية. لاقاني الحاج ابراهيم مستغرباً، وسألني أين استرزقت في ذلك النهار. أخبرته باسم الشارع، لكني لم أعطه كلمة السر. حضّر الحاج ابراهيم في اليوم التالي «بسطة» حمولتها ثلاثة أضعاف ما يعرضه في كل يوم واتجه الى شارع هاشومير. ركض الحاج ابراهيم خلف أول ولد يسرق حبة سمسمية عن الطاولة ليعود ويجد الأولاد الآخرين قد سرقوا بسطته عن آخرها.
دخل «شيمون» أو شمعون برفقة مسؤول الأمن في جيش لحد فارس أبو سمرا حارتنا الواقعة بين نزلة النهر وحارة نجد


‎قلت لشيمون: «هذه هي القصة، التي بقي منها تفصيل بسيط. ألحّ أن أخبره إياه فاشترطت أن يقول لي أين كان أهله في ذلك العام. أجاب بحذر: في بولونيا. قلت له حسناً، لقد سرقتم السمسمية وحيفا، وها هو النبي سجد في الأعلى، لماذا لا تسرقونه هو أيضاً؟». ‎سمعت شتيمة بالعبرية من شيمون لفارس الذي أدخله هذه الحارة الملعونة، رجعت إلى الدار وكانت أم علي قد فرغت من النافلة. قبلتها على خدها الشهي كحبة السمسمية.

‎عملية السمكة
(محمد ن. يروي)

‎لا يعرف مهدي الذي يلهو بالآيباد ما هو «الحوز». هو الشجر الذي يلقي برأسه فوق حوض النهر ويتلألأ بثمره تحت الشمس: «احذروا أن تأكلوه، هو يشبه حبات الخوخ الصغيرة، لكن سأقول لكم سراً: «زومه» حين يُدقّ يقطع عن السمك الماء والهواء»، كانت أمي تحذّرنا كلما تطاولت أيدينا لهذا الثمر ــــ الفاليوم. نزلت أنا ومحمود سعادة الى النهر، وقررنا أن نعود بزوادة سمك تغنينا عن طبخة المجدرة التي كرهتنا وكرهناها في بيتنا في الأعلى. الخطة بسيطة: نختار منطقة نسميها «الدوّار»، عادة ما تكون محصورة من اتجاهات ثلاثة، نحوّل مجرى الماء عنها ونغلق الجهة الرابعة بالحجارة وأكياس النايلون. أحدنا يدق «الحوز» والآخر «يعوكر»، أي يدوس برجليه التراب الراكد تحت الماء: نرمي الحوز المطحون في الماء المتعكر، فيخرج السمك الصغير (البزرة) أولاً، كان قلب محمود رقيقاً، إذ بشبكة صغيرة كان يرميه مباشرة في «السبلة». بعدها مباشرة يبدأ «الشغل»، تظهر الأسماك المتوسطة والكبيرة تباعاً، أخرجنا يومها ثلاثين سمكة أو أكثر بقليل، وتقدمت لأزيل الأحجار بركلة من قدمي لنعيد للنهر انتظامه القديم، حين صرخ بي محمود: «توقّف»، «حنشة... حنشة»، لقد رأيتها للتو. «الحنشة» كانت تعني سمكة بطول مضاعف، وتعطي من يحظى بها وسام الاعتراف من الأتراب بالمراس في الصيد. طوقنا السمكة ذات اليمين وذات الشمال، وحين قلت لمحمود إنها صارت في قبضتي، «زلبطت» وخرجت من الدوار بأسره: إنها بطول الذراع تماماً. كنت قد أخبرتُ محمود في أول المغامرة أني في صغري «شربت من ميّة البِركة» في سجد، فقال لي ضاحكاً «أنت عنيد كالغزالة التي تشرب من البركة ويسمونها الكرّاز». حين هربت الحنشة، باغتني محمود: «فرجيني إذا عنجدّ شربان من ميّة بركة سجد». عرفت فوراً أنه قرر أن يطارد السمكة. توغلنا نزولاً في النهر: قطعنا جسر المعديّة، جنوباً حتى دوّار الجورة ونحن نلمح السمكة تعدو أمامنا، إذ إن منسوب النهر يتضاءل نزولاً، وجلدها البني يفضحها تحت الشمس. نصف ساعة من المطاردة ويصرخ بي محمود: «انظر، لقد رمت بنفسها في تلك النقعة»، «game over».
لم نكن نعرف أننا صرنا تحت موقع السويداء تماماً، إذ ما إن اقتربنا من السمكة حتى بدأ إطلاق الرصاص. بدأت الحفلة بمزاح بسيط، زخات من القنص ليتبعها رشق من الماغ، لكن الحنشة كانت قد صارت بقبضتنا. صارت أرجلنا تلتصق بظهورنا من الركض، عدنا أدراجنا ليبدأ «الهبج» من الاتجاه المعاكس. بدأت مرابض الهاون التابعة للمقاومة تصلي بحممها موقع السويداء. كانت أمي تنتظرني أول الطريق الموصل الى النهر، لوّحتُ لها بـ«الحنشة» من بعيد بعدما تنازل محمود عن حصته منها. في المساء، حين أذاعت المقاومة بياناً حول عملية السويداء، وبعدما قال لي طارق: «الله لا يعطيكم العافية، خليتونا نفتح جبهة اليوم»، قلت لمحمود إن تلك السمكة كالشهداء، ستجعل الذاكرة نهراً بماء غزير.