أول من أمس، غادرنا جسد صلاح ستيتية (1929 ــــ 2020) في باريس، لتبقى الروح هائمةً هَيَّامَةً. الشاعر ـــ وهذه هي الصفة الأحب إلى قلبه ـــ حرص أبوه الذي كان مُدَرِّساً على تلقيه أُسُسَ تعليم فرانكوفوني رصينٍ، في «الكوليج البروتستانتي الفرنسي» في بيروت؛ فيما تكفّل والده بتلقينه الثقافة العربية - الإسلامية في البيت. بداية من 1947 سيتتلمذ على يد غابريال بونور في المدرسة العليا للآداب، وهناك سيُزَامِلُ جورج شحادة الذي سيبقى صديقاً حميماً له حتى وفاته في 1989. في 1949، يتخرجُ مدرساً ويشتغل في «كولويج الآباء الْمِخِيتَارِيِّين الأرمني» في حلب. في 1951، تمنحه الدولة الفرنسية منحة لاستكمال دراسته الجامعية في السوربون، ويتتبع بشكل موازٍ دروس المستعرب الفرنسي لوي ماسينيون في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا و«الكوليج دو فرانس». بداية من 1953، يدخل مضمار الصحافة الفرنسية، من خلال مجلة «الآداب الجديدة»، لصاحبها موريس نادو؛ ما سمح له بالاندماج في الحياة الثقافية الباريسية ومُصَادَقَة أهم الشعراء والفنانين المقيمين فيها: بيار جان جوف، أندري بيار دو مانديارغ، إيڤ بونفوا، زاو يو كي، بيار آلشنسكي، أنطوني تاپْيِسْ، هنري ميشو وإميل سيوران. في 1955، يعود إلى بيروت، ويشتغل في التدريس في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، ثم في المدرسة العليا للآداب فالجامعة اللبنانية. ومثلما أسهم أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا في تأسيس الملحق الثقافي لـ «النهار»، أسس ستيتية الملحق الأسبوعي الأدبي والثقافي لـ «لوريان»، حيث بقيَ مديراً له حتى 1961. ووفق تقليد سار عليه الشعراء ـــ ذلك أن بين القصيدة والسفارة الكثير من الكلام تلميحاً، والنبرة الخافتة وإعطاء الكلمة حقّها بتقتير بالغ ـــ دخل ستيتية السلك الدبلوماسي، على خطى سان-جون بيرس ونيرودا وأوكتافيو باث؛ مستشاراً ثقافياً للبنان في باريس وأوروبا الغربية، ومندوباً دائما للبنان في اليونيسكو ثم سفيراً في هولندا فالمغرب؛ لينتهي به المطاف أميناً عاماً لوزارة الخارجية اللبنانية في بيروت. سيرة حياة سيختصرها في عبارته: «متجولٌ كبير بين الحُلْمِ والفعل».
راوح بين الكتابة بلغة فرنسية حديثة والاغتراف من تقاليد الثقافة العربية الإسلامية

كان مسارُ الكتابة عند ستيتية دوماً مزدوجاً، في مراوحته بين الكتابة بلغة فرنسية حديثة والاغتراف من تقاليد الثقافة العربية الإسلامية، بين الشعر والنثر، بين النقدين الأدبي والفني، متوسّلاً لغةً كثيفة ذات استعارات نادرة تحاول القبض على جوهر التجربة الإنسانية، بحيث يكاد يكون مالارميه الشاعر الأقرب إليه في بحثه عمّا يتكرّر في كتاباته تحت مُسَمَّى: الأنقى، الأصفى، الخالص، وهو ما يجمله مالارميه في مقولته الضاربة كحدّ سيف: «إعطاء معنى أصفى لكلمات القبيلة»، العبارة المركزية في دراسة ستيتية المكرَّسة للشاعر، بعنوان: «مَالَارْمِيه لَازَوَرْدٌ مُعَافَى» (1999). إلى جانب المتن النقدي الكبير، للراحل متن شعري كبير أيضاً: «الماء البارد المحروس» (1973)، «الوجودُ الدميةُ» (1983، نقلها أدونيس إلى العربية، 1983)، «الجانب الآخر المحترق من الأصفى» (1992)، إلى جانب كتابه الأساسي: «الرامي الأعمى» (1986)، الجامع بين النص المفتوح والدراسة الأدبية والنقد الفني. وللشاعر أيضاً مجموعُ كراريس شذرية لَمَّهَا في «كُرَّاسَاتُ الْمُتَأَمِّلِ» (2003). مسارٌ غني ومركب لخصه إيڤ بونفوا بتعبيره: «أعمال ستيتية رغبة متيقظة في الإيمان بكلمة الشعر».

مقتطفات

أ ــ أفكار لنفسي
ثمّة مناخات ينبغي أن تمنع فيها الحروب. الأزرق وطن.
***
الشّعر احتراق لا يفهم ولا يخبو.
***
أجمل هبة للبستانيّ، كلّ صباح، ثناء الزّهور الصّامت.
***
نقيم في ظلال عقدنا كما لو تحت فرشة، والبحر قبالتنا.
***
تتيح لنا الثّقافة أن نتنزّه لدى الآخرين. ينبغي أن نفعل ذلك دون الإضرار ببساتينهم.
***
ارتميت في المحبرة هرباً من الغرق.
***
ثمّة مجنون يحوم وسط الحضارات. هو من يلهمها. وهو، أيضاً، من يحطّمها.
***
الرّواية صورة شمسيّة للقلب. والشّعر، تخطيطات الرّوح.
***
يحدث لنا، مستندين إلى جدار، أن نتمكّن من تحطيم الثّلاثة الآخرين الّتي تشكّل سجنا ًلنا.
***
أن تقف على ضفاف نفسك ـــ تلك البحيرة العميقة ـــ، وتصطاد بقصبة.
***
هذا اليوم مخصّص للبستنة، أضفت غصيناً إلى روحي.
***
الحياة موسيقى ترقص على خيط شفرة سكّين.
***
على صفحة النهار الناصعة، أكتب بقطع من فحم. خربشات على جدار.
***
الإنسان قرد فاشل.
***
يموت البالغون مع سنّ البلوغ، ثمّ يواصلون تقدّمهم في السّنّ.

■ ■ ■

ب ــ حفلة جنون. سيرة
قسطنطين برانكوزي ـــ التقيته مرّة واحدة، حوالى سنة 1954، ثلاث سنوات قبل وفاته، في مشغله في مونبارناس، مشغله المترع بقناني الشّامبانيا حتّى أسفل الفراش ـــ، وهو ببهاء يلثغ بحرف الغين الفرنسيّ: «الله شجرة بالغة الكبر. عند قدم هذه الشّجرة، ثمّة ذئب يفترس حملاً. ولا ورقة من الشّجرة يرفّ لها جفن».
***
الإمام موسى الصّدر، ذو العينين الجميلتين المتّقدتين والصّافيتين، أبهرني ببعض الجلال في طريقة حديثه بعربيّة فصيحة راقية ذات لكنة فارسيّة، مع أفق رحب من مرجعيّات ثقافيّة، متعدّدة ودقيقة في الوقت نفسه. أقتطف له من دوستويفسكي، فيحدّثني عن كتابه «ذكريات بيت الموتى». أقتطف له من باسكال، فيحدّثني عن صاحب «أفكار»، مقارناً بين مظاهر من أعماله مع روعة «نهج البلاغة» للإمام عليّ.
***
ما يجعل الوضع متعذّراً على الحلّ في الشّرق الأوسط، وغير قابل للوجود حتّى اليوم، هو أنّ كلّ فريق يدافع فيه، على التّوالي، عن حصّته من الأرض وحصّته من السّماء. يليق بنا، ذات يوم، أن نضع اللّه بين قوسين. (حفلة جنون، ص. 388.)

■ ■ ■

ج ــ قرائن وقردة
مكيدة الموت في أنّها توهمنا بوجودها أمامنا، في أنّها تفتح وتعبّد الطريق. في حين أنّها وراءنا، تتعقّب خطانا وتحطّ ـــ شاردة الذّهن ـــ طفلاً فوق ظهرنا.
***
ما من شكّ أنّه علينا أن نحبّ ذواتنا قليلاً كي نكتب. وما من شكّ أنّه علينا أن نكره ذواتنا كثيراً كي نكتب نصوصاً عظيمة.
***
القلب يرغب في المشي، والرّكب في النّوم.
***
ما يشعر، من بيننا، بالخجل أكثر، هو معطفنا.
***
الأصلع يخبّئ مشطه.
***
ثمّة في الماء عطشاً.
***
كلّ ثعلب غابته.

■ ■ ■

د ــ أذن الحائط
اللّه يسود من خلال حزن الزّنبقة.
***
الشّعر، هذه الخطوة الخاطئة التي يستدركها خفّها.
***
نكتب جيّداً من أجل أعدائنا. وتحت نظرتهم.
***
غير الخالص خالص إن أخلص لإفراطه.
***
لذّة أن تكون بهيمة. لذّة أن تكون. لذّة.
***
ثمّة كتابات تنسب إلى الخيلاء: التّوراة، القرآن. وكتابات تنسب إلى التذلّل: الإنجيل. ففي هذا الأخير، رغم ذلك، يقول الإنسان بأنّه الله. ينبغي الاحتراز من المتواضعين.
***
العين تأكل. الأذن تشرب. نأكل شخصاً مّا بالعينين. نشرب كلماته.

■ ■ ■

هـ ــ القصيدة 27
تلك الّتي ستموت
حجر ظفرها منبهر بالحزن
أصابعها تلامس الموت



أحيّيها لأنّها لن تموت
بل ستلامس الموت فقط
ستموت فحسب

ساقان قاسيّان فوق عذوبات الاخضرار
اختفى القلب
كبر الطير والغيمة اختفى القلب.
(من ديوان: «شذرات: قصيدة»، 1978)

■ ■ ■

و ــ القصيدة 3
فكرةٌ كامنةٌ فيها، معتِمةٌ.
مُغلَقة (فكرةٌ مغلَقة) حولَ قنديلٍ.

بِالْكَادِ، وبالقليلِ، وَهَّاجَةٌ. محمولةٌ
مِنْ بردٍ إلى بردٍ إلى غايةِ
الحالة المعتمة، الْمُزدادةِ خطراً، قربَ الدم.
(من ديوان: «انقلاب الشجرة والصمت»، 1980)

المصادر:
Salah Stétié, En un lieu de brûlure. Œuvres, Laffont, coll. «Bouquins», Paris, 2009.
Salah Stétié, L’extravagance. Mémoires, Laffont, Paris, 2014.


إشارة النار

أدونيس
يصدر صلاح ستيتية في شعره عن حدس يرى أن اللغة بدَئية، كأنما هي قبل الأشياء، أعني أنها لا تعمل وإنما تسمي.
[..] كأن شعر صلاح ستيتية امتداد بالكلمة لفن الخط الإسلامي، أعني للشعر الأرابيسكي، مع فارق وحيد، هو أن الثاني يحيد عن شيئية العالم بحدس ديني، وأن الأول يحيد عنها بوعي التجريد. غير أن الهاجس واحد: إنه هاجس تشكيلي ـــــ جمالي.
هكذا نصفه بأنه شعر ـــــ هندسة: شكل جميل بذاته ولذاته. وهو، في جماليته هذه، فعّال ودال — مع أنه لا يعكس «واقعاً» ولا يحمل «قضية». والكتابة هنا ليست ترويضاً للغة فحسب، شأن الترويض الذي يمارَس على الخطوط، وإنما هي أيضاً إرادة تنظيم وتناغم، إرادة تشكيل جمالي. والقصيدة هنا بنية-نسق. إنها العلم بالجمال، إنها علم الجمال.

* بيروت، في 17 آذار 1982
(من مقدمة ترجمة أدونيس لديوان ستيتية: «الوجودُ الدميةُ»، دار الآداب، 1983)