توفي قبل قليل. سرعان ما اكتشفت الأمر وأنا أقترب من سيارته. ساكن خلف مقوده، دفتره بين يديه وقلمه الرصاص بيساره.هو من أوصلني منذ ساعة تقريباً إلى الكنيسة لإحياء العيد. في الداخل كنا نحو عشرة فقط، بمن فيهم القس الذي أصرّ علينا للقدوم هذا اليوم وعدم الالتزام بقيود الحجر الصحي. علاقتي بالقس وطيدة مذ قررت أن أعترف أمامه قبل عام، «بحثاً عن ملجأ» كما قلت في حينه.
كان الشارع خالياً. المحال مقفلة ولا أحد في الطريق. رجل وامرأة يجلسان في شرفتهما غير منتبهين. وكلب على شرفة مقابلة. أما في السيارة، فكانت موسيقى تسمى بـ«بوست روك» متواصلة، وقد تعرّف كوستاس إلى هذا النوع عبر أجنبي أوصله قبل أيام إلى المطار، عشية إغلاقه الموقت.
في الواقع، لم أعرفه قبل الحجر. أذكر وجهه بين وجوه سائقين كانوا يركنون سياراتهم إلى جانب الساحة العامة الأوسع في مدينتنا الصغيرة. ولكنّه أضحكني منذ مشواري الأول معه. فبينما كنت أركب في الخلف لاتّقاء أيّ تقارب، رأيته يلف وجهه بخرقة ويرشها بماء رذّاذة صغيرة، أجابني بأنّها «تزيفانيا … الكحول الذي أحب … بدلاً من السبيرتو».
أطلق ضحكة سرعان ما ذابت معالمها بين تجاعيد وجهه البشوش. ثم رأينا شاباً عند الإشارة الثانية يلاعب كرات بين كفيه «لكسب ملاليم في هذه الأيام الصعبة»، وفقاً لكوستاس. وما لبث أن استطرد: «كنت أقلّ ما بين ١٥ و٢٠ راكباً قبل الأزمة. حالياً تراجعت إلى ما بين أربعة أو خمسة. فقط».

«إنها تمطر رجالاً» للفنانة الأميركية نيكول إيزنمان (زيت على كانفاس ــ 61×45.7 سنتم ـــ 1999)

كان هازئاً كبيراً. لم يسخر أبداً من الناس الخائفة، وإنّما تضحكه «السلطة التائهة في هذا الزمن غير المعتاد». وأذكره أمس يهزأ بالأسلوب «العنجهي» لمسؤول كان يكرر عبر الراديو أهمية الإجراءات الصحية وضرورة الالتزام بها. قال وسط حديثه «تتعرى السلطة حين تتكلم».
سرت طويلاً بعد وصول سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المشرحة. أوقفتني دورية للشرطة لأنني أخالف القيود. وفي شقتي، نظرت مطولاً إلى رذاذة كوستاس، وشرعت أشرب من المشروب نفسه. فقد اشتريت الزجاجة وكيس تبغ في طريق عودتي.
إنّها المرة الأولى التي أدخّن فيها منذ نحو عام. وهي المرة الأولى التي أشرب فيها هذه الكمية الكبيرة. أعادني كوستاس إليهما لحظة موته. حتى إني لم أعد بعدها إلى داخل الكنيسة كما كان يتوجب عليّ، ولم أستعن بأحد، ولا أعرف إذا ما كنت سأعود يوماً.
اعتدت عليه خلال هذا الحصار الجديد. كان صلتي الوحيدة بالعالم الخارجي. لا تزيد مدّة معرفتنا عن الأسبوعين، ولكننا تقاربنا سريعاً. اعتاد الصعود إلى شقتي في الأيام الأخيرة، لشرب القهوة قبل مشوارنا أو بعده. يخبرني بما يجري من حولنا، خاصة أنّ سائق التاكسي بنظره «من بين قلة بإمكانهم الإلمام يومياً بكل أحوال مدينتهم».
وقبل يومين كما أذكر، روى لي أنّ أمه توفيت في سنة انقسام مدينتنا. بفارق أسبوع تقريباً عن تاريخ وفاة أبي وأختي إثر النزاع الدموي نفسه. لم أخبره.
كانت بيننا أمور مشتركة كثيرة، هو محبّ للشعر مثلي. وهو أيضاً لم يخبرني أنّه كان برفقة والدته في ذلك اليوم المشؤوم. شككت في الأمر حين اكتشفت في دفتره رسمة بعنوان «أمي» لامرأة سقطت على الأرض، دماؤها تحيط برأسها وثمّة فتى صغير يبكي في حجرها. لكوستاس ندبة واضحة في وجهه، لكن لا أعرف إن كانت نتيجة تلك المأساة.
أعرف أنّ كل واحد منّا يسافر إلى الحب بمفرده/ بمفرده إلى الإيمان وإلى الموت


أخبرني مرة أيضاً أنّ الخرقة التي يلف بها وجهه مأخوذة من الثوب الأخير الذي كانت ترتديه أمه. وقال ضاحكاً «أفضّل أن أواجه الفيروس اللعين بخرقة أمي». دمعت عيناه ولكننا عدنا لنضحك طويلاً حين أراني رسمته عن مدينتنا. رسم كاريكاتوري لسور مدينتنا العريق، إلا أنّه وضع فوقه مدفعَي بارود، وكانت فوهتاهما على شكل محاربين يريدان الانسحاب خوفاً من الأهوال الآتية. قال إنّ «الأول يشبه رئيسنا والثاني يشبهك أنت».
شتمته، وقلت له «يبدو أن إمساكك القلم بيسارك أثّر على رسومك».
أعتقد أنّه لم يبدّل عادته. أما أنا، فقد اعتدت في الأيام الأربعة الماضية حمل القلم بيساري. حاولت أن أرسم، وحقيقةً لم أفلح بأكثر من عدد كبير من الدوائر الصغيرة البيضاء والقليل من الأسود يحيط بها.
إخفاقي هنا لم يمنعني من التطلع إلى العمل مثله. أعتقد أنّ مهنة سائق التاكسي ستكون ضالتي للانشغال، ووسيلتي لمراقبة محيطي الذي لا أكف عن النظر إليه بقلق.
بعد ساعات قليلة من قراري، زارني القس لسؤالي عن سرّ تغيبي المستمر. وجدني قابعاً في الكرسي، الدفتر بيدي وكنت أضفت إليه دائرة بيضاء كبيرة محاطة بالأسود. وجدني ميتاً كما مات كوستاس بهدوء.
أعتقد أنني متّ عندما ندهته لأذكّره بما قاله الشاعر اليوناني الذي نتشارك حبه:
«أعرف أنّ كل واحد منّا يسافر إلى الحب بمفرده،
بمفرده إلى الإيمان وإلى الموت.
أعرف ذلك. جرّبته. إنّه غير مفيد.
دعني أذهب معك».
هنا تحديداً، سمعت قرقعة المفتاح، ودخل القس.

* عن مدوّنة «المراسل»