رحل قبل أيام المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا البولوني، كريستوف (أو كشيشتوف باللفظ البولوني) بنديرتسكي (1933 — 2020). إنه عميد المؤلّفين الكبار في بلده في القرن العشرين، إلى جانب زميليه اللذين سبقاه في الرحيل، لوتوسوفسكي (1913 — 1994) وغوريتسكي (1933 — 2010).بولونيا أعطت المؤلف الكبير فريدريك شوبان (1810 — 1849) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أي في قلب الحقبة الرومنطيقية، لكنها قدّمت لاحقاً العديد من المؤلفين، من بينهم رئيس وزرائها بُعَيد الحرب العالمية الأولى، باديرفسكي (1860 — 1941)، الذي كان عازف بيانو أيضاً وله تسجيلات لأعمال غيره. بعد الأخير، برز منذ منتصف القرن الماضي تيار المؤلفين الطليعيين الذي انتهجوا الحداثة أسلوباً في التأليف الموسيقي واستخدموا الأدوات الموسيقية الجديدة، لناحية النظريات، وأبرزها النظام اللامقامي (والتسلسلي والاثني عشري) الذي كان قد وُلد وتطوّر في فيينا في العقود الأولى من القرن العشرين، مع ما يُعرف بـ«مدرسة فيينا الثانية»، أي المؤلفين الثلاثة: شونبرغ، فيبرن (قتله جندي أميركي، في بلده، عن طريق الخطأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) وبيرغ. هذا التيار تمثّل بشكل أساسي في الثلاثي لوتوسوفسكي، غوريتسكي وبنديرتسكي، الذين تجمع أعضاءه قواسم مشتركة عدة، رغم خصوصية كل منهم وبصمته في التأليف.
اليوم يرحل ثالثهم، تاركاً كمّاً كبيراً من الأعمال، في شتى الفئات التقليدية الموروثة وتلك المتحرّرة من قواعد الشكل، أكان لناحية بنية التأليف والحركات أو لناحية الآلات الموسيقية والأدوات المستخدمة لإصدار الأصوات الجديدة (مثل استخدام السوط في عمل شهير له). الفترة الذهبية في مسيرته تعود إلى الستينيات التي شهدت ولادة أشهر أعماله اليوم، على رأسها «مرثية لضحايا هيروشيما». العمل الأوركسترالي الوتري الذي استعان به لاحقاً ستانلي كيوبرك في فيله الشهير Shining، يستعيد، بالصوت، صورة الحدث الإجرامي الرهيب المتمثل في الهجوم الذرّي الأميركي على اليابان. صوت الطائرات، صفارات الإنذار، انفجار القنبلة، عذابات الضحايا والقتلى، فوضى الدمار، صراخ الناجين واستغاثاتهم… كلها حاضرة في عملٍ أراده المؤلف الراحل مساهمةً صادقةً منه لتخليد ذكرى هذه المعاناة. كان ذلك في عام 1960/1961، وبعد خمس سنوات وضع بنديرتسكي عمله الشهير الثاني بعنوان «الآلام بحسب إنجيل (أو القديس) لوقا»، على غرار المعلّم في هذا المجال، الألماني باخ، وهو عمل إنشادي ديني يستعيد آلام المسيح، كما نقله الإنجيلي لوقا (وأضاف بنديرتسكي نصوصاً دينية أخرى على الرواية الإنجيلية). على الرغم من وضعه مؤلفات أوركسترالية مستقلة وأخرى من فئة موسيقى الحجرة (رباعيات وتريات وأعمال لآلتَين أو آلة واحدة وغيرها) وأعمالاً غنائية (إنشادية دينية أو أوبرالية) وسمفونيات وكونشرتوهات، غير أن العمل الثالث الذي لاقى انتشاراً أوسع من باقي ريبرتوار المؤلف البولوني الغزير، هو «القدّاس الجنائزي البولوني» (Polish Requiem)، الذي يشبه أعمالاً كثيرة على ذات النسق (موزار، فيردي،…) لكنه يحمل خصوصية محلية. إنه عمل جديد نسبياً (كتبه في الثمانينيات وراجعه في التسعينيات) ويتميّز بعودة إلى الكتابة الكلاسيكية نسبياً (بعيداً عن اللامقامية). وهذا الرجوع مألوف عند العديد من مؤلفي القرن العشرين، بعد فترة تجارب تصل أحياناً إلى الراديكالية في قطع الصلات الفنية مع الماضي. بنديرتسكي كان مناهضاً للنظام الشيوعي في بلده، وهذا النوع من الأعمال يُقرأ على أنه نوع من تسجيل موقفٍ سياسي ذي غلاف ديني وروحاني.
عمله الأوركسترالي «مرثية لضحايا هيروشيما» استعان به ستانلي كيوبرك في فيله Shining


من جهة ثانية، ومثل معظم المؤلفين في التاريخ، كان لكشيشتوف بنديرتسكي نشاط في قيادة الأوركسترا، وتسجيلات كثيرة في هذا المجال، لكنه لم يحقق إنجازاً يُذكر في قيادة أعمال غيره، في حين تُعتَبر تسجيلاته لأعماله مرجعاً مطلقاً، وهذا طبيعي.
عام 2010، شكّلت دعوته إلى «مهرجانات بعلبك الدولية» حدثاً كلاسيكياً كبيراً، إذ حلّ كاسمٍ بشخصيّتَين: المؤلف وقائد الأوركسترا (نقصد أعمال غيره). في الجانب الأول، سمعنا بقيادته على رأس «أوركسترا كراكوف السيمفونية» عملاً من تأليفه هو كونشرتو الفيولا (منقول للتشيلو والأوركسترا). وفي الثاني، سمعنا افتتاحية «إيغمونت» الشهيرة لبيتهوفن وكونشرتو البيانو رقم 1 لشوبان، في تحية لشاعر البيانو في مناسبة المئوية الثانية لولادته، حيث قدّم مواطنه، عازف البيانو كريستوف يابلونسكي أداءً ممتازاً، ما زالت آثاره حاضرة في أذهاننا لغاية اليوم.
لغاية كتابة هذه السطور لم يكن سبب وفاة المؤلف البولوني قد أُعلِن بعد. بالتالي، لا يمكن اتهام فيروس كورونا بقتله… هذا ظلم!