«التوراة الحجازية ــ تاريخ الجزيرة المكنوز»، الصادر عن «مؤسسة الانتشار العربي» فتح علمي مؤكد وفوز تاريخي ثابت. بعد أكثر من عقد أمضاه محمد منصور في البحث والتدقيق، ها هو في كشفه الجديد يلحّ على ثلاثة أقانيم تعدّل الدراسات التوراتية الغربية برمّتها. أولها أنّ فلسطين ليست الأرض المقدّسة التي كتب الله لإبراهيم. ثانيها أنّ معظم اليهود بمن فيهم من هم في فلسطين، لا ينتمون إلى نسل إبراهيم. ثالثها أنّ نصوص التوراة وعلى رأسها ألواح موسى دُوّنت بلغة عربية قديمة هي لهجة قبيلة كنانة الأولى التي سكنت الحجاز منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، فكأنّ تلك النصوص كُتبت بخطّ الاختزال، أي ما لا يجوز قراءته حسب قواعد سيبويه. وإذا كان أستاذنا الفاضل كمال الصليبي (1929–2011 )، رحمه الله غيّرَ وإلى الأبد مسار الدراسات التوراتية في أثره النفيس «التوراة جاءت من جزيرة العرب» حيث زعزع مبادئ الفكر التوراتي الغربي، فإن مبحث د. محمد منصور إضافة على كتاب الصليبي وتعديل له. إضافة لجهة اللغة وتعديل لجهة الجغرافية. إنّ القول بالعربية هي شفة كنعان إقرار بلهجة قبيلة كنانة، فالنصوص التوراتية في عُرف البحّاثة د. منصور مُدوّنة بطريقة إملاء قديمة لا تجوز قراءتها بحسب قواعد سيبويه كما قرأها علماء المأثور اليهودي الذين أعادوا ضبط قراءة النصوص العبرية بين القرنين السادس والعاشر الميلاديين، وكان موسى بن ميمون الفيلسوف آخرهم، فيما ألحّ هوذا بن قريش الجزائري في كتابه «الرسالة» على ضرورة التمسّك بالقراءة العربية والآرامية لفهم النصوص العبرية. من هذا المنطلق، يرى د. منصور أنّ التوراة في شقّها العتيق نصّ عربي قديم يعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد. وعليه فمؤلف «التوراة الحجازية» لهو أساساً مبحث في تاريخ الجزيرة العربية وأصول أنساب القبائل فيها من نوح حتى غزو نبوخذنصر الحجاز عندما تصدّى له العدنانيون، كما روى الطبري والمسعودي نقلاً عن أهل الأخبار العرب.لعلّ كتاب د. منصور إذن أول صفحة من تاريخ الأدب الجاهلي نصّاً من العهد القديم للتوراة، أي الكتاب المقدس، جرياً على منهجية قراءته لنصوص التوراة.
وتبيّن للبحاثة د. منصور أنّ الجغرافية الصحيحة لأحداث التوراة هي مكّة أمّ القرى وما حولها، ذلك أنّ مؤرخي مكة القدماء أحصوا أربعين اسماً لها ورد جلّها في التوراة.
ولئن كان كمال الصليبي أبا هذا العلم التوراتي في القرن العشرين، فإن محمد منصور يسجّل فوزاً عظيماً يتوّج هذا العلم. في صيف 2011، كان لقاء أول بين د. منصور وقرينته خلود القصيبي مع كمال الصليبي إثر اتصال خلود بالمؤرخ هاتفياً من دون معرفة مسبقة، فرحّب بهما وأشار عليهما بأن أرشدهما إلى منزله المطلّ على الجامعة الأميركية وأن أحضر اللقاء المزمع.
في هذا اللقاء الأول، كان د. منصور قد تقدّم بدراسته وخلص إلى أنّ التوراة عربية ومركزها مكة. وفي هذا اللقاء مع الصليبي، قرأ د. منصور أمامه الفصل الـ 16 من الإصحاح من سفر التكوين قراءة عربية، وليس ترجمة، وعرض عليه خريطة مستقبل لمكة وفيها ثلاثة مواقع مذكورة في الإصحاح المذكور، ما يثبت وجود شارة مع هاجر في مكة. في ما بعد، أعلمني الصليبي في دعوته ثانية للقائه. وفي اللقاء الثاني هذا، أكد الصليبي ضرورة إتمام مبحث د. منصور ونشره. وفوراً رأى الصليبي صواب منهج منصور ووافق على النهج والنتائج.
هذا من جهة اللغة. أما من جهة الجغرافية، فيرى د. منصور أنّ أحداث التوراة مجراها مكّة. وعليه، فإن أورشليم أي عُرى السلام هي مكّة وهي لتشديد عُرى الصداقة.
على هذا النحو، يتفق د. منصور مع رؤية الصليبي من حيث المنهج اللغوي، لكنه يفترق عنه في أنّ مكة وليست عسير هي جغرافيا الكتاب المقدس. إنّها تهامة الحجاز وقصبتها الرئيسية في مكة، وبقيت كذلك حتى تأسيس المملكة السعودية الحالية. القصبة مكة هي مركز الإشعاع الفكري منذ زمن الملك سليمان. إنّها قدس الأقداس. الكعبة ببابها والصعود إليها عبر درج، وهي داخل الهيكل وفيها تابوت العهد وفيه ألواح موسى التي بقي منها الحجر الأسود.
بقي أن أقول بأنني عرفت محمد منصور بدءاً من عام 1971 في رحاب الجامعة الأميركية في بيروت، وفيها تخرّج طبيباً بعد ثلاثة عقود على تخرّج الصليبي، وبعد قرن على ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية بإشراف كورنيليوس فان وايك أستاذ الطب فيها، حين كان اسمها الكلية السورية الإنجيلية. ولئن كان الصليبي كرّ البصر في جغرافية هذا الكتاب، فإنه قيّض لمنصور أن يعيد النظر في لغته فكشف عن تراث عظيم موغل في تاريخ العرب، ولا غنى عنه لفهم حاضر الأمّة العربية بحيوية موروثها.

* باحث وأكاديمي فلسطيني ـ النصّ هو مقدّمة كتاب «التوراة الحجازية ــ تاريخ الجزيرة المكنوز» لمحمد منصور الصادر حديثاً عن «مؤسسة الانتشار العربي»