هذا العام تصادف ذكرى ربع ألفية على ولادة المؤلف الألماني بيتهوفن. العالم بأسره يحتفل بالمناسبة، كلٌّ على طريقته، وفي لبنان خصص له «مهرجان البستان» دورةً كاملة. بأيّ دافع يمكن للمرء أن يعمل على ملفٍ عن هذا الرجل، اليوم، وفي يومية سياسية، وفي بيروت؟ من يهتمّ، والجوع يلوح في الأفق القريب؟ من يكترِث، والغالبية الساحقة جرفتها التفاهة نحو سلع فنية من نوع آخر؟ من يقرأ، والعالم يبحث عن علاجات للحدّ من تفشي اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة؟ مِن أين نشحذ الرغبة في الكتابة؟ يبدو أن الشغف في مشاركة الأشياء الجميلة ونقل المعرفة المفيدة بات شحيحاً، وكذلك الأمل. يبقى لنا المجهول. المجهول هو الذي يدفع إلى فعل الأشياء. طالما أن الضمير المهني والفني تجاه الإنسان والمجتمع متوافر، علينا أن نُنجز هذا الملف ونرميه في المجهول. مَن يقرأ؟ لا نعرف. مَن يكترِث لبيتهوفن؟ لا نعرف. مَن يهتم للموسيقى؟ لا نعرف. صحيح أن بيتهوفن فقدَ السمع، لكن الصمم أصابنا نحن!
برادلي تيودور ــــ «سمفونية بيتهوفن» (طباعة بالشاشة الحريرية ــــ 40 × 30 سنتم ـــ 2018)

بعد تخطّي هذه العقبة، نصطدم بواحدة أخرى. إن كمّ المعلومات عن بيتهوفن وحياته وأعماله وتاريخه الذي يبدأ قبله ولن ينتهي اليوم، يستحيل حشرها في هذه المساحة: من عائلته إلى مدينته وأصدقائه وثورات عصره السياسية والاجتماعية والفكرية والفنية والموسيقية (حتى في الشق الميكانيكي، مثل تطوير البيانو واختراع الميترونوم) وعمله وصحته ويومياته التي ترك فيها معاصروه كتابات كثيرة، وصولاً إلى اكتئابه ومشروع إنهاء حياته بعد فقدانه السمع وغرقه في ظلمات الصمت، وهو ربّ مَن أضاء الوجود بجمال الصوت. ثم مِن تركته الموسيقية الضخمة وانتشار مؤلفاته في العالم، وصولاً إلى بدء عصر التسجيل وولادة لعبة الأداء لأعماله منذ مطلع القرن الماضي، بالإضافة إلى أثره في السينما والأدب وتأثيره في الموسيقى، وغير ذلك… ماذا نهمل؟ ماذا نختار؟ ارتأينا أن نركّز اليوم على بيتهوفن من زاوية «مهرجان البستان»، على أن نعود إليه على مراحل، كل مرة من زاوية نعتقد أنها مهمّة، خلال هذه السنة. سنتناول في ما يلي بيتهوفن بشكل عام، من دون التركيز على جانب محدّد. ثم نتناول «مهرجان البستان»، في مقالةٍ أخرى (راجع الصفحة المقابِلة)، بالإضافة إلى لمحة عن أهم محطّاتها، وأخرى عن الموسيقيين (من حضر ومن غاب).
عندما كنّا في الصفوف الابتدائية في المدرسة، كان هناك نصٌّ في كتاب القراءة عن الموسيقى. ما زلنا نذكر ورود ثلاثة أسماء فيه: باخ، موزار وبيتهوفن. رغم غياب أي علاقة لنا بالموسيقى الكلاسيكية آنذاك، لا من خلال العائلة ولا عبر المحيط القريب والمجتمع، لم نشعر أنها أسماء غريبة. مع مرور السنوات والغوص في هذا العالم الشاسع، فهمنا لماذا ذُكِرَت هذه الأسماء دون سواها، قبل أن نتأكّد بأنفسنا، أن هذا الثلاثي هو فعلاً، لا صدفةً، ثالوث مقدّس، يتربّع على عرش الموسيقى، لا الغربية فقط ولا الكلاسيكية فحسب. إنهم عمالقة من عالمٍ آخر، رغم وجود سواهم من الأدمغة الموسيقية في الغرب والشرق، في الكلاسيك كما في جميع الأنماط، شعبية كانت أم نخبوية. صحيح أن 2020 هو عام بيتهوفن، لكنه، على مدى سنوات، وبحسب الإحصاءات السنوية لآلاف العروض الحية على مستوى الكرة الأرضية، يتقاسم مع مواطنَيه الجرمانيَّيْن، المراتب الثلاث الأُول من حيث ورود أعماله في برامج الحفلات.
إنه لودفيغ فان بيتهوفن المولود في مدينة بون الألمانية عام 1770 في كنف عائلة متوسطة الحال. والده كان مغنياً ومدرّس موسيقى، وأراد أن يجعل من ابنه، الموهوب جداً، «موزاراً» ثانياً. تلقى دروسه الموسيقية مع عدة أساتذة، لكنه لم يكن الطفل المعجزة الذي كانه موزار (يكبره بـ14 سنة). في سن الـ17، سافر إلى فيينا، عاصمة الموسيقى في أوروبا آنذاك والتقى موزار وعزف أمامه للمرة الأولى… والأخيرة. فموزار رحل عن 35 عاماً بعد نحو أربع سنوات على هذه اللقاء الذي همَس خلاله للحضور هذه الكلمات: «انتبهوا لهذا الفتى، سيتكلّم عنه العالم بأسره». بعد رحيل والدته، المرأة القديرة والهادئة التي كان يعشقها، عاد إلى فيينا الغارقة في حدادها على موزار، لكن هذه المرّة ليتتلمذ، لمدة سنة، على يد المؤلف العتيق هايدن.
بيتهوفن كان قد بدأ بالتأليف حتى قبل لقائه بموزار، لكن مسيرته لم تنطلق بشكل جدّي إلا عند بلوغه الـ25 من عمره تقريباً، عندما نشر أول أعماله (ثلاثة أعمال من فئة التريو وثلاث سوناتات للبيانو). وكلمة «نشر العمل» إلى جانب التعليم هي مصدر العيش بالنسبة إلى بيتهوفن، الذي كان أول مؤلف يخرج عن قاعدة «الموظّف» عند السلطات الدينية أو الأرسطقراطيين. في تلك الفترة أيضاً، بدأ يشعر بأن أذنيه ليستا على ما يرام، ليفقد سمعه تدريجاً مع مرور السنين، حتى بلغ الصمم التام قبل عشر سنوات تقريباً من رحيله عام 1827. رغم ذلك، أمسك القدر من رأسه وركَّعَه.
بعد التخلّي عن فكرة الانتحار (المبرَّر في هذه الحالة!) التي راودته ووضعها قيد التنفيذ قبل ذلك بكثير (كتب وصيته المعروفة باسم «وصية هايليغنشتات» عام 1802)، تابع التأليف، بل كتب أعظم أعماله، من بينها السمفونية التاسعة المصنّفة أهم إنجاز موسيقي (وربما فنّي) في تاريخ البشرية. اليوم، بعد نحو قرنين على رحيله، ربما لا تمرّ ثانية على الكرة الأرضية إلّا وهناك بشرٌ يصفّقون لبيتهوفن، كأنهم بذلك ينفّذون بشكل متواصل وصيّته على فراش الموت، عندما تمتم قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد: «صفقوا يا أصدقائي… انتهت المسرحية».