إن كنت من مُحبي القراءة في الاقتصاد السياسي، فمن المُحتمل بدرجة كبيرة أنك سمعت أو قرأت اسم المُفكر الاقتصادي اللبناني علي القادري، وقرأت المقدمة التقليدية التي تطرح قبل اسمه في المقابلات الصحافية واللقاءات العابرة كون القادري باحثاً في «جامعة سنغافورة الوطنية»، وباحثاً زائراً سابقاً في قسم التنمية الدولية، ومختبر البحوث المتقدمة حول الاقتصاد العالمي في «كلية لندن للاقتصاد». كما شغل منصباً في المكتب الإقليمي للأمم المتحدة لغرب آسيا.تعد كتب القادري في العقد الأخير من الأعمال الفكرية القليلة الرصينة التي تعالج الاقتصاد السياسي لمنطقتنا العربية بشكل غير تقليدي خاضع لمدارس النيوليبرالية والحلول «السحرية» لصندوق النقد الدولي. لا تُشكل أعماله ضرباً من ضروب ناقدي الاستعمار فقط (مدرسة ما بعد الكولونيالية مثلاً) من دون النظر لما أحدثه المستعمِر في بنية المجتمع المستعمَر، وتشكيل هويته، وإعادة إنتاج مؤسساته، فلا يغض القادري الطرف عن الصراع الطبقي ولا يحذف الفرد والمجتمع من قاموسه لصالح الأرقام والمؤشّرات والإحصائيات، ولا يتجاهل الأحداث الاجتماعية التي رفعت الأنظمة الحاكمة، خصوصاً القومية الاشتراكية العربية، إلى مقاعد السلطة.
يختصر القادري تاريخنا العربي وتجربتنا الاقتصادية في كلمة واحدة هي «التدمير» سواء كان هذا التدمير للدول العربية ناتجاً عن حروب مباشرة في الحقبة الاستعمارية والانتداب البريطاني والفرنسي، أو الغزو بحجة الحرب ضد الإرهاب كالعراق عام 2003، أو الغزو لـ «حماية الثورة» كما تم في ليبيا بعد عام 2011، أو تدمير غير مباشر عن طريق وصول نخب نيوليبرالية موالية للغرب تطبّق أجندته الاقتصادية التي تمنع الإنتاج المحلي وتفكك القواعد الصناعية، وتفقّر الشعوب وتعيد هيكلتها لتنتج صيغاً رخيصة لمجتمعات مُستعمَرة لصالح الجهات المهيمنة الجديدة في العالم كصندوق النقد والبنك الدولي.
كذلك، لا يتغزل القادري في التجارب الاشتراكية القومية العربية (حقبة الخمسينات والستينات)، بل وجّه لها نقداً جاداً. مثلاً نجده يتناول الاختلالات البنيوية الفنية على المستوى الصناعي حيث تم التعجل في عملية التصنيع كما حدث في مصر في الحقبة التاريخية المذكورة من دون النظر إلى مستوى تطور القوى الإنتاجية ومستوى الدخل القومي، ما أدى إلى تشوّه العلاقة بين هيكل الاستهلاك وهيكل الإنتاج وتدهور الصناعة ككل لاحقاً. كما قدم نقداً اجتماعياً طبقياً في مصر وسوريا خلال الحقبة التاريخية نفسها بخصوص طبقة الفلاحين التي بدأت تنمو بشكل مُطرد وتسيطر على القاعدة الاجتماعية وتكوّن بيروقراطية إدارية كبيرة (كماً وكيفاً)، مُحفزة بذلك معدلات الاستهلاك الرخيص أسرع من معدلات تكوّن طبقة عاملة مُنتجة تلبي هذه الاحتياجات. أمر أدى إلى زيادة معدلات التضخم وفقدان فرص النمو الاقتصادي... كما نظر القادري إلى معدلات النمو السكاني والأخطاء السياسية الداخلية والخارجية، والحروب العربية الإسرائيلية، وصعود نفوذ النفط في حقبة السبعينات وغيرها من الأمور.
رغم أهمية أعمال علي القادري، إلا أنّها صدرت كلها باللغة الإنكليزية منذ عام 2014 عندما نشر عمله Arab Development Denied: Dynamics of Accumulation by Wars of Encroachment ثم تبعه كتاب مهم عام 2016 بعنوان The Unmaking of Arab Socialism. توالت إصداراته عامي 2017 و2019 مُحللاً وباحثاً وناقداً في اقتصاديات ما يمكن أن نعرفه بعالم الهوامش (مصر، العراق، سوريا، دول آسيوية...) البعيد عن المركز الغني المتمثل في غرب أوروبا وأميركا واليابان.
ما الجديد بعد هذه المقدمة التقليدية عن علي القادري؟ الجديد هو بدء صدور ترجمات أعماله باللغة العربية عن «مركز دراسات الوحدة العربية». فقد أعلن المركز أخيراً عن صدور الطبعة العربية من كتاب «تفكيك الاشتراكية العربية» (ترجمة فيكتور سحاب)، كما ستتبعه الطبعة العربية من كتاب «التنمية العربية الممنوعة» (2014). وبناءً عليه، لا بدّ هنا من التنويه بالعمل الإداري الذي سمح لنا بقراءة أعمال القادري في ترجمات عربية رصينة، وبالتغيير الذي قامت به لونا أبو سويرح وفريقها منذ توليها رئاسة «مركز دراسات الوحدة العربية»، بدءاً من تطوير موقع المركز الإلكتروني وأرشفة مطبوعاته السابقة، ثم الاهتمام بالعناوين التي تجذب شرائح واسعة من القراء، وفي الوقت عينه تتمتع بالرصانة من حيث تقديم دراسات دورية عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي لدول الخليج، والاهتمام بالتغيرات الفكرية والسياسية التي طرأت على بلدان «الربيع العربي» كمصر وتونس واليمن وسوريا وليبيا، ومحاولة ضخ دماء جديدة في الكُتاب والمُفكرين والباحثين الناشرين على صفحات مجلات وكتب «مركز دراسات الوحدة العربية».
لماذا نشكر مركزاً ثقافياً على القيام بدوره في نشر الثقافة؟ لأن هذا صار أمراً نادراً في واقعنا العربي، مع سيطرة دول خليجية معينة على المنتج الثقافي العربي، وإدخاله في ساحات الاستقطاب الإيديولوجي والصراع السياسي في ما بينها، وجفاف منابع الفكر القومي والاشتراكي وقلة موارده المالية. ونضيف هنا أنه مع تسارع وتيرة التغيرات الاجتماعية النيوليبرالية في الوطن العربي، لم تعد الثقافة والتثقيف هدفاً بحد ذاته، بل صار المكسب من وراء بيع الثقافة هو الهدف. لذا فقدرة «مركز الدراسات» على توفير مصادر دخل ذاتية تسمح له بالاستمرار في العمل ودفع رواتب للعاملين وللمترجمين والمدققين اللغويين أمر يحسب للإدارة ككل.
تولى «مركز دراسات الوحدة العربية» ترجمة مؤلفاته إلى لغة الضاد


لماذا نحتفي بترجمة كتاب؟ إن كنت من المتابعين للإصدارات العربية المترجمة وقارنتها بغيرها من أي لغة أخرى، ستكتشف أنها قليلة كماً وفقيرة جداً كيفاً، أي ستجد أن أغلب دور النشر التي تتوفر لها مصادر مالية هائلة، قد تهتم بالمبيعات على حساب فكرة الكتاب، فنجد طوفاناً من الروايات المترجمة ــ ولا نقلل من أهمية الأدب ــ مقابل كتاب أو اثنين يقدمان رؤية جديدة لواقعنا العربي، سواء بأعين عربية سافرت ورأت المشهد من خارج عالمنا أو رؤية غربية قد تساعدنا في فهم كيف يرانا الآخر، وكيف نكون صورة عنه ونتعامل معه بناءً عن خلفيته عن واقعنا العربي. وبهذا، لا يكون الاحتفاء بترجمة بعض كتب علي القادري أمراً غريباً.
أخيراً، في زمن قلّ فيه شكر الناس على معروف بدون مقابل، فمن الأمانة المعرفية أنّ على كل مُهتم بالفكر الثقافي الرصين وبالوعي العربي وببناء هيكل فكري خاص بالبيئة العربية بلا اندفاع أعمى خلف الغرب، وعلى كل مهتم ببناء «أنا» و«ذات» لا تشعر بالاحتقار تجاه نفسها كونها عربية، أن تدرك أن هناك أناساً ما زالوا يعملون بجد وباجتهاد، وبسواعد عربية لترتيب البيت وتزويدنا بكتب تنير لنا عتمة طرقنا العربية الموحشة.