تونس | «إن الإنسان في نهاية الأمر قضية» هكذا حدّثنا الكاتب والمناضل الفلسطيني الراحل غسان كنفاني وهو عائد من حيفا! وهكذا كان المسار الإبداعي لثلة من الفنانين الذين احتفت دار الثقافة «ابن رشيق» في تونس العاصمة بأغانيهم وأشعارهم ضمن «المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة».المهرجان الذي اختتم قبل أيام، واصل بدورته الثانية مسار الالتزام الفني والثقافي الذي انتهجته تونس. إثر تظاهرة «أسبوع أفلام المقاومة والتحرير»، جاء هذا الحدث الموسيقي في دورته الثانية متمّماً لما افتقدته تونس منذ ثمانينيات القرن الماضي حين برزت مجموعات موسيقية على غرار «البحث الموسيقي» و«الحمائم البيض» ليعود الالتزام الفني مع بزوغ فجر الحرية.

الدورة التأسيسية
انطلقت الدورة الأولى من «المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة» في السنة الماضية، وراهن خلالها مدير دار الثقافة «ابن رشيق» سفيان القاسمي على مجموعة من العروض لامست ذوق الجمهور التونسي، وجعلته ينتظر الدورة التي تليها بشوق. إذ احتضنت العروض يومها أماسي لفرقة «إسكندريلا» المصرية و«نردستان» المغربية. كما حوت البرمجة عروضاً موسيقية أخرى من تونس، إضافة إلى ندوة علمية بعنوان «الأغنية الملتزمة والتحوّلات الاجتماعية»، فضلاً عن معرض وثائقي قدّم لمحة تاريخية عن الموسيقى والأغنية الملتزمة في تونس.
نجاح الدورة التأسيسية لم يكن هو الهدف من تنظيم الحدث، وإنما أراد القائمون على هذه التظاهرة تواصلها لسنوات أخرى وحصولها على دعم يضمن استمراريتها. لذلك كانت الدورة الثانية ذات إشعاع تجاوز الدورة الأولى بكثير، خاصة مع حضور أسماء من الوزن الثقيل موسيقياً وفنياً كـ «الثلاثي جبران» والفنان اللبناني أحمد قعبور.

الالتزام كموقف حياة
انطلقت الدورة الثانية ببرمجة ثرية لتذكّرنا بالفنانين والشعراء الذين صدحت حناجرهم بالحرية وتحدّي السلطة وتبنّي القضية الفلسطينية والانعتاق الاجتماعي للشعوب العربية كالشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وسيد درويش ولزهر الضاوي وآدم فتحي وآمال الحمروني وغيرهم. وقد أطلق على هذا النمط الفني وصف ملتزم انطلاقاً من التزامه بالدفاع عن قضايا الإنسان وأولها الحرية والعدالة الاجتماعية عبر الموسيقى والشعر.

نفدت تذاكر عرض «تريو جبران» قبل يومين من الأمسية

افتتاح الدورة الثانية كان تحت عنوان «الالتزام موقف وأسلوب حياة» شمل تكريم كلّ من الهاشمي بن فرج، والإذاعي السابق الحبيب بالعيد، تقديراً لما قدّماه للأغنية الملتزمة. كما تضمّن عرضاً للفنان اللبناني أحمد قعبور، صاحب أغنية «أناديكم... أشدّ على أياديكم» التي كتب كلماتها الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد وصارت نشيداً للمقاومين. وقد شاركته الحفلة فرقة «أجراس» بقيادة الفنان عادل بوعلاق.
بمعاناة الكادحين والولاء للوطن وحب الحياة، غنّت فرقة «ديما ديما» للتونسي ياسر جرادي أعمالها الشهيرة مثل «شبيكي نسيتيني» عن تونس وأولادها الفقراء، و«نرجعلك ديما ديما» عن الحنين للوطن. كما أنّ القضية الفلسطينية كانت ضمن اهتمامات ياسر الفنية، إذ ردّدت فرقته أغنية «فلسطين حرّة حرّة» التي كتبها ياسر إبان اغتيال الطفل الفلسطيني محمّد الدرة.
«يا شهيد الخبزة» أغنية كانت ممنوعة من قِبل السلطة التونسية في فترة بن علي، إذ إنّها توثّق حقبة انتفض فيها الشعب ضد زيادة ثمن الخبز، وسقط نتيجة هذه الانتفاضة العديد الشهداء. وهذا هو موضوع الأغنية التي كتبها الشاعر لزهر الضاوي وقد تحدّث فيها عن أحد هؤلاء الشهداء الفاضل ساسي، لتعدّ أغنيته أسلوباً للمقاومة، وقد لحّنتها وغنتها مجموعة «عيون الكلام»، وأشعلت من خلالها النفس النضالي في الجمهور الحاضر في قاعة دار الثقافة «ابن رشيق». واستعاد هذا الجمهور سنوات الجمر وحماسة أغنيات الشيخ إمام أيضاً التي حملت الفرقة اسم إحدى أشهرها «عيون الكلام». ولا ننسى طبعاً أن اختتام المهرجان تزامن مع ذكرى اغتيال الشهيد المناضل اليساري شكري بلعيد، ليكون بمثابة هدية لروحه التي لطالما تغنّت بالحرية من خلال الفن الملتزم.
ولأن الفنون شكّلت منذ ظهورها وسيلة للتعبير والتواصل، فإنّ «مجموعة البحث الموسيقي» (فرقة موسيقية ملتزمة انطلقت من مدينة قابس في الجنوب التونسي في الثمانينات) صدحت موسيقاها بالنضال والمقاومة مواصلةً المسار الذي انتهجته، فكانت إلى جانب الحركة الطلابية والتحركات الاجتماعية ضد الاستبداد أيام كانت السلطة تلجم الأنفاس.

لقاءات فكرية
البرمجة تزامنت مع لقاءات فكرية بعنوان «شاهد أنت عليهم.. وعليك الكلمات»، بحضور شعراء على غرار الشاعر آدم فتحي. وتحت عنوان «الأغنية الملتزمة بين الجرأة والإبداع»، قدّم الفنان أحمد قعبور ندوة سرد خلالها تجربته مع الأغنية الملتزمة خلال الحرب اللبنانية عام 1975. مع الغناء الملتزم، تنوّعت الورشات على امتداد أيام الدورة كورشة «في أداء الأغنية الملتزمة» التي أشرفت على تأطيرها الفنانة المغربية سناء بو سامة.
اتّسمت هذه الدورة باستضافة فرق عربية اشتهرت بنمط موسيقي فريد كفرقة «اسكندريلا» المصرية التي كانت حاضرة خلال الدورة الأولى أيضاً، إلى جانب الثلاثي جبران من فلسطين وفايا يونان من سوريا.
سمع الجمهور أغنية «يا شهيد الخبزة» التي كانت ممنوعة في زمن زين العابدين بن علي


«أعدي لي الأرض كي أستريح فإني أحبك حد التعب» و«سنمضي إلى حتفنا، أوّلاً، سندافع عن شجر نرتديه وعن جرس اللّيل، عن قمر، فوق أكواخنا نشتهيه وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع» كلمات الشاعر محمود درويش أحيتها فرقة «ثلاثي جبران» في نفس الجمهور التونسي، وقد امتدّت رحلة الإخوة مع «شاعر الأرض» 13 سنة قدموا خلالها أكثر من ثلاثين عرضاً في مختلف دول العالم انطلاقاً من المدن الفلسطينية، مروراً بالعواصم العربية والأوروبية.
أعدّ الثلاثي لـ«المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة» عناقاً إبداعياً فنياً بين الشعر والمعزوفات، صانعين حالة من اليوفوريا داخل مسرح الأوبرا في مدينة الثقافة. إذ نفدت تذاكر العرض قبل يومين، فالجمهور التونسي كان متعطّشاً للموسيقى الراقية التي دأب الثلاثي على تقديمها. أمّا مسك الختام، فكان مع رائحة الياسمين الدمشقي، إذ قدمت فايا يونان أغنياتها باللغة العربية الفصحى منها «في الطريق إليك». كما اختارت أغنية تونسية للفنانة علية بعنوان «الساحرة» لتسحر بها قلوب الحاضرين، فقدّموا لها الورد والمشموم التونسي.
ولئن كان برنامج المهرجان متميزاً من حيث محتواه الراقي، أخذ البعض على إدارة المهرجان غياب الفنان اللبناني مرسيل خليفة عن برمجته. في المحصّلة، مثّل «المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة» ملتقى الموسيقى والأشعار الرافضة رفض الشعوب العربية لصفقة القرن وفسح المجال للتعبير عما يعتمل الأنفس من هواجس وقضايا عجزت السياسة عن التعبير عنها.