لا شك في أن الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان عام 1975 وأُجبِر المتحاربون على وقف المواجهات مرتين: إحداهما في عام 1976 والثانية في عام 1990 بقوة تدخل خارجي، قادت إلى تغيرات كثيرة في ذهنية كثير من القوى المشاركة في تلك المأساة والكيفية التي ينظرون فيها إلى بعضهم، وإلى أنفسهم أيضاً، بطبيعة الحال. فقد قادت المعارك التي شاركت فيها قوى بوحشية منقطعة النظير، حتى بالمقاييس الخارجية، إلى انحيازات في تخوم بيروت. ومن ذلك على سبيل المثال ما سُمي «الخط الأخضر» الذي فصل بين غربي بيروت وشرقيها. إلى جانب الانحيازات المادية في التخوم التي جرت أثناء الحرب، ثمة أخرى، ذهنية، نقرأ تفاصيلها وتجلياتها في كتاب هبة بو عكر «في انتظار الحرب المقبلة ــــ تخطيط بيروت وضواحيها» (منشورات جامعة ستانفورد ـــــ مع 31 خارطة ورسمة).

لكن كيف يمكن الحديث في هذا الموضوع الحساس للغاية الذي قد «يستفزّ» بعض القوى ذات العلاقة بموضوعه! الباحثة تناولت بالتحليل تخوم بيروت الجنوبية الشرقية وتحديداً حي ماضي ودوحة عرمون وصحراء الشويفات التي تسكنها مجموعات بشرية تنتمي إلى ثلاث طوائف مختلفة هي: الشيعة والسنة والدروز. من المؤسف اضطرارنا لاستعمال هذه التعريفات البغيضة إلى نفسنا ونفس كثير من اللبنانيين والعرب وفي مقدمتهم الكاتبة بكل تأكيد. لكن لبنان الذي شكّله الاستعمار الفرنسي وفق اتفاقية سايكس-بيكو عبر اقتطاع جزء مما كان يُعرف ببلاد الشام، قام على أسس طائفية بل مذهبية متخلفة في المقام الأول. وها نحن نرى مدى صعوبة التخلّص منه. علينا في هذا المقام تذكّر أن قادة الدول والأمم الأوروبية قرروا أن أفضل سبيل لوقف الحروب الدينية والمذهبية المستمرة في ما بينها هو الانتقال إلى الدولة الوطنية وفق «سلام فستفاليا» الموقّع عام 1648. علماً بأن فرنسا كانت من ضمن الموقعين عليه وكانت الرابح الأكبر من الاتفاقية التي كُتبت باللغة الفرنسية. فرنسا التي عارضت التقسيمات المذهبية في أوروبا، فرضت نظاماً مذهبياً طائفياً قروسطياً متخلّفاً في بلاد الشام أو سوريا. لكن ذلك ما كان ليتم من دون تواطؤ قوى محلية في بلاد الشام.
على أي حال، مدى تغلغل الفكر المذهبي والطائفي في ذهن كثر من ذوي العلاقة يعني أن الكاتبة كانت على جانب كبير من الشجاعة للحديث المباشر في الموضوع.
قالت الكاتبة هبة بو عكر: «في لبنان، يُستخدم الإنماء المُدني وسيلة في يد العديد من الأحزاب السياسية والمنظمات لفرض نفوذها على مناطق معينة، وإقصاء بعض المجتمعات المحليّة. ويتجلّى ذلك على نحو خاص في ضواحي بيروت وتحديداً في الأحياء الواقعة على طول الخط الأخضر القديم الذي فصل بين شرقي بيروت وغربيها خلال الحرب الأهلية».

انقر على الصورة لتكبيرها

لقد رسم منطق الحرب معالم التخطيط العُمراني في كلٍّ من حي ماضي وصحراء الشويفات ودوحة عرمون، إذ لم تشكّل هذه المناطق الطرفية مجرّد مساحات لإقامة مشاريع تطوير عقاري، بل عدت أيضاً أراضي أو خطوطاً أمامية لخوض «الحروب المُقبلة». لذا، تمّ التعامل مع التخطيط على أنه أداة إنماء ونزاع في الوقت نفسه. في حي ماضي، لا تزال آثار الدمار الذي خلّفته الحرب الأهلية واضحةً للعيان حتى يومنا هذا، رغم الطفرة التي شهدها قطاع البناء في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية. ويعود السبب جزئياً إلى أن الكنيسة المارونية ابتاعت أراضي هناك للحؤول دون بيعها إلى شركات تطوير عقاري مملوكة لغير المسيحيين، وتحديداً للشيعة في حالة حي ماضي. ونظراً إلى أن الكنيسة لا تملك الأموال اللازمة لترميم الأبنية المدمّرة، بقي الدمار إلى أن عرضت شركات تطوير عقاري مملوكة للمسيحيين شراء هذه الأراضي.
وفي صحراء الشويفات، تنافست الأحزاب السياسية بشراسة على تقسيم المنطقة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار المسار الشاقّ لتعديل قوانين تقسيم المناطق في لبنان، يبدو لافتاً أن ذلك الخاص بصحراء الشويفات عُدّل ثماني مرات بين عامي 1996 و2008، ما يجسّد النزاع المحتدم على هذه المنطقة، دوماً وفق كلمات الكاتبة. وخلال السنوات التي تلت الحرب الأهلية، اعتبر كلٌّ من حزب الله، وحركة أمل بدرجة أقل، أن صحراء الشويفات تشكّل امتداداً لضاحية بيروت الجنوبية، معقل الشيعة. لذا سهّلا عملية تطوير مشاريع سكنية مُيَسَّرة في المنطقة. وواقع الحال أن «حزب الله» سعى إلى تصنيف صحراء الشويفات منطقة سكنية لذوي الدخل المنخفض والمتوسط.

انقر على الصورة لتكبيرها

من جهة أخرى، سعى الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي إلى الإبقاء على صحراء الشويفات منطقة صناعية وزراعية، في خطوة هدفت جزئياً إلى كبح تدفّق الشيعة إلى منطقة كانت معروفة تاريخياً بأنها مملوكة للدروز. واللافت هو أنه عقب الاشتباكات المسلحة في أيار (مايو) 2008 بين تحالفي 8 آذار و14 آذار، بات خبراء التنظيم المُدني وأعضاء المجلس البلدي في صحراء الشويفات يقاربون عملية التخطيط من منظور طائفي وسياسي أكثر صراحةً من السابق. فقبل عام 2008، كانوا يستخدمون مصطلحات تقنية في الغالب لشرح التغييرات التي طالت تقسيم المناطق.
أما دوحة عرمون، التي تقع جنوب بيروت وتُعتبر امتداداً لبيروت الغربية ذات الغالبية السنّية، فقد بذلت حكومة المغدور رفيق الحريري جهداً للاستثمار في البنى التحتية هناك، لكن في أعقاب اشتباكات أيار (مايو) 2008، أصبح مالكو العقارات وأعضاء المجلس البلدي في المنطقة، ومعظمهم من الدروز، أكثر تردّداً في السماح بالاستعانة بشركات تطوير عقاري مملوكة من الشيعة، اعتبروها على ارتباط بـ«حزب الله». فعلى سبيل المثال، شجّع بعض مسؤولي البلديات مالكي العقارات الدروز على بيع أملاكهم للسنّة وليس للشيعة.
وقد اجترحت الكاتبة مجموعة من المصطلحات شرحتها، إضافة إلى تعبيرات أخرى سائدة. على سبيل المثال، نجد «في انتظار الحرب المقبلة» المرتكز إلى تمييز مصطلح السلام من فترة السلام (الأدق: الهدوء) بين الحروب. فانتهاء الحروب لا يعني بالضرورة السلام، ومثال ذلك ما تلى اتفاق الطائف إلى يومنا هذا. لذلك، فإن لسياسة «في انتظار حرب مقبلة» بُعداً زمنياً ومكانياً. إنها تتضمن لحظة حالية لا يمكن تخيّل المستقبل منها إلا كوقت لمزيد من الصراع العنيف. من الناحية المكانية، فإنها تستحضر منطقاً منظّماً يقضي بأنه لا ينظر إلى أطراف بيروت على أنها مساحات للنمو الحضري والربح العقاري فحسب، بل أيضاً حدود للحروب المستقبلية. بالتالي تتم إعادة تشكيل هذه المساحات تشكيلاً مستمراً اليوم من خلال دورات العنف المتكررة، ما يؤدي إلى إنتاج مجموعات من التدمير والبناء، والفخامة والفقر.

انقر على الصورة لتكبيرها

تناقش الكاتبة مسألة ترتيب المناطق الحضرية استناداً إلى المنطق العسكري وتذكّر القراء بأنه ليس جديداً أو فريداً في المدن التي تتعرّض للصراع أو في المناطق الجغرافية في الجنوب. لقد كان جزءاً أساسياً من مشروع التحديث في الشمال العالمي. وتستشهد بقول بعض أهل الاختصاص بأن بولفار هاوسمان في باريس القرن التاسع عشر لم يمثّل فقط مشروع تحديث، لكن أيضاً استراتيجية عسكرية لمواجهة الانتفاضات الشعبية المتكررة في المدينة. مع ذلك، فإنّ المنطق الزمني للتدخّلات المكانية للحرب التي لا تزال في بيروت، تحدّد منطق التخطيط في هذه المدينة بصرف النظر عن المقاربات الأوروبية المركزية للتنمية الحضرية التي تميزت بتدخلات هوسمان وإعادة إعمار المدن الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. قامت مشاريع التخطيط هذه على دمج آليات الدفاع في أفكار التقدّم والتحديث، إلّا أنّ التخطيط «للحرب التي ستأتي/ الحرب التي لم تندلع بعد/ في انتظار حرب مقبلة» يتشكّل بتوقعات العنف في المستقبل والإرهاب والخراب الاقتصادي، لكن من دون الوعد بمستقبل أفضل وفق كلمات الكاتبة.
هذا المؤلّف يشرح كيف حولّت سنوات الحرب الطائفية والصراع بيروت إلى ساحة للأحزاب والجماعات الدينية/ السياسية المتنافسة للاستيلاء على موطئ قدم ونفوذ في المدينة، ويكشف أن تخطيطها الحضري يعكس قبول الفصائل السياسية اللبنانية بالاستمرار الحتمي للعنف الطائفي والنزوح البشري، حيث تتداخل المناطق الصناعية والسكنية ولا تحوي طرقاً سريعة أو حتى ملاعب!
كما تجادل الكاتبة بأن هذه الظروف ليست استثنائية ولا تقتصر على أنموذج «مدن في حالة صراع». ذلك أننا نمرّ في لحظة عالمية حيث المستقبل المتخيّل في معظم الأماكن في العالم، في كلّ من الشمال والجنوب العالميين هو عالم من الصراع والمنافسة التي تتميز بالأزمات البيئية والهجمات الإرهابية المتوقعة والتدفقات غير المسبوقة «للاجئين والمهاجرين الذين لم يأتوا بعد!».
تحدّثت الكاتبة في أحد اللقاءات الصحافية عن أسباب كتابتها هذا المؤلف بالقول: «اخترت أن أكتب عن العنف في مكان أسمّيه منزلي. هذا المسعى شكّله تاريخي الشخصي للحرب والتشريد بقدر ما هو بحث علمي في جغرافيا الصراع وآثارها. بدأ المشروع كتحقيق في كتل من المساكن ذات الأسعار المعقولة التي ظهرت في أطراف بيروت الجنوبية في العقد الذي تلى نهاية الحرب الأهلية. لسنوات عديدة، بدت هذه المباني السكنية شاغرة. بدافع الفضول حول كيفية ظهور هذه التطورات الضخمة ولماذا بدت فارغة في سوق الإسكان الضيق، بدأت العمل الميداني في محيط جنوب شرقي بيروت بالقرب من المكان الذي عشت فيه أنا وعائلتي. ما كان منطقة زراعية وصناعية لفترة طويلة أصبح الآن موقع إعادة بناء المساكن الضخمة. وقد ظهرت خلال عملي قصص من الميدان حول الحياة في النزوح والإخلاء والسياسات النيوليبرالية للحكومات اللبنانية بعد الحرب ومحدودية الوصول إلى الإسكان منخفض الكلفة ودور المنظمات السياسية-الدينية والمسابقات على الخطط الرئيسة ومراسيم تقسيم المناطق وصنع الجغرافيا الطائفية من خلال أسواق الأراضي والإسكان. أصبحت عملية كتابة هذا المؤلف على مدار خمسة عشر عاماً من البحث والمشاركة في هذا المجال بمثابة عملية لاستجواب مفاهيم الحرب والسلام والوطن والتهجير والعزل والتضمين في المناطق الجغرافية «لما بعد النزاع» وحفر التاريخ الشخصي الذي شكلته الحرب ووعود ما بعد الحرب بمستقبل أفضل لم يأت بعد».
تحدثت هبة بو عكر في هذا الموضوع «المقلق» عبر خمسة فصول، إضافة إلى المقدمة (حرب في زمن السلام) والتكملة (مستقبل متنازع عليه). أما الفصول الخمسة فهي:
1) تشييد جغرافيات طائفية: تتحدّث الكاتبة في هذا الفصل عن منهجية العمل، قائلةً: «يمكن اعتباره أفضل طريقة لإثنوغرافيا الممارسات المكانية التي تبحث في كيفية إعادة ترتيب الأراضي من خلال ممارسات وخطابات الخوف وشائعات الصراع والحديث عن الحرب. يعتمد الفصل أساساً على ستة عشر شهراً من المقابلات وأبحاث المحفوظات التي أجرتها المؤلفة في عامي 2009 و2010 في ما يتعلق بالمناطق الطرفية آنفة الذكر.
2) تضاعف الخراب: لا يزال مشهداً مألوفاً في بيروت الحضرية حيث ترك الصراع جغرافيا شاسعة لمثل هذه الندوب بما في ذلك المباني نصف المدمرة، المأهول بعضها وهي لا تزال تحمل آثار الصراع الوحشي الطويل. لكن بقاء الأنقاض هنا لديه قصة خاصة يجب سردها وتكشف كيف أن عملية التضاعف تكمن وراء مدينة في حالة صراع. أثارت نهاية الحرب الأهلية في لبنان عام 1990 نقاشاً مألوفاً حول آثار الحرب وأهمية الحفاظ على بعض الأنقاض للتذكير بالحرب كي لا تتكرر. لكن باستثناء حالات قليلة ملحوظة مثل مبنى بركات الذي تم تحويله إلى متحف ومركز ثقافي يوثق تاريخ بيروت وحربها الأهلية أو فندق «هوليداي إن» الأيقونة، ساد منطق الربح في المستقبل. وقد أشارت الكاتبة إلى ما رأته الأسباب الحقيقية لبقاء بعض المباني المهدمة في تخوم عانت ويلات الحرب، وبينت أن ذلك جزء من رسم حدود المواجهات «للحرب التي لم تأتِ بعد»!
2) تخريم المناطق: خصصت الكاتبة هذا الفصل للحديث في موقع صحراء الشويفات في عملها وتقصّيها. وتقول: «تقع صحراء الشويفات في محيط منطقة مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. لا يمكن للمرء المرور عبره إلا إذا عمل أو عاش هناك، مع صعوبة صيانة طرقه. ومع ذلك، فإنه يحتلّ مكاناً ذا أهمية استراتيجية وجيوسياسية بين المناطق السكنية المنسوبة إلى مجموعات طائفية مختلفة قبل وقت طويل من أعمال العنف التي اندلعت عام 2008. ومع ذلك فإن المعركة حول مستقبل هذه المنطقة لم تخَض بالأسلحة النارية بل من خلال تطوير الإسكان والمعاملات العقارية وأدوات التخطيط للمناطق. الجهات الفاعلة الرئيسة في هذه المسابقة هي «حزب الله» الشيعي والحزب الاشتراكي التقدمي الدرزي المسيطر على بلدية الشويفات، في حين سيطر المطورون التابعون لـ «حزب الله» على صحراء الشويفات في أسواق العقارات والإسكان.
4) تخوم منتفخة: تواصل الكاتبة تحليل التخوم، وتنتقل هنا إلى دوحة عرمون موظفةً مثالاً شخصياً وهو مكان سكن عائلتها هناك. تقول إن إطلالة الشقة وقت الانتقال إليها عام 1993 كانت على مطار بيروت والبحر، لكن منظر الإطلالة تغير منذ ذلك الوقت. إذ إنها أصبحت على مجموعة من المباني الإسمنتية. وترفق قولها بخرائط وصور تشرح المقصود بـ «النفخ». كما توضح ضمن أمور أخرى أن «النفخ» حول دوحة عرمون وتحويلها من منطقة نائية إلى تخوم متنازع عليها جاء بضغط من القوى السياسية-المذهبية وهي «حزب الله» و«المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي».
تم إفراغ التخطيط في المدينة حتى من أفكار العدالة المكانية التي ظلت مرنة حتى خلال أصعب سنوات الحرب الأهلية


5) تخطيط من دون تطوير: في ضوء المقابلات مع الخبراء المحليين، يبدو أن بيروت ما بعد الحرب قد شهدت تحولاً كاملاً في منطق التخطيط: من التخطيط إلى التطوير إلى التخطيط من دون تطوير. هذا يشير في نهاية المطاف إلى أن التخطيط أصبح غاية بحد ذاته، وهو ترتيب المناطق لكن من دون هدف اجتماعي أكبر. في الواقع، لقد تم إفراغ التخطيط في المدينة حتى من أفكار العدالة المكانية التي ظلت مرنة خلال أصعب سنوات الحرب الأهلية. لقد كان هذا التحول إلى حد كبير من «البحث عن التنمية»، الذي يركز على قضايا الفقر واللاشرعية، إلى تمرين في الاختلاف الطائفي المكاني الذي كان مسؤولاً عن تحويل الخطاب حول أطراف بيروت الجنوبية من كونه «أطرافاً غير رسمية وفقيرة» إلى أن تكون «أحياء شيعية». إن إعادة صياغة الوعي السياسي تجاه المحيط واقتصاده والهامش وسكانه كان لها أيضاً تداعيات كبيرة من حيث زيادة مستويات الفقر والتمييز والعنف وفقدان الجودة البيئية. لذلك تُظهر الدروس المستقاة من لبنان في مرحلة ما بعد الصراع أنه حتى عند انتهاء أعمال العنف، يمكن للجهات الفاعلة السياسية إمّا أن تعاقب فئات معينة من السكان أو أن تكافئهم عبر آليات الدولة الرسمية أو آليات السوق.
تختم الكاتبة عملها بالقول: «بيروت ليست جديدة على الحرب؛ في الواقع، كانت المدينة موقع نزاع منذ ما يقرب نصف قرن. وبدلاً من الخط الأخضر الذي قسم المدينة الشهيرة خلال الحرب الأهلية، أصبحت المدينة الآن مجزأة بمئات «الخطوط الخضراء» الجديدة التي حولت أطرافها سريعة النمو إلى حدود للعنف المحلي». هذا المؤلف بمثابة عدسة يمكن من خلالها فهم كيف يكون التخطيط للنزاع في المستقبل مسؤولاً أيضاً عن الإنشاء المستمر للحدود في بيروت. يتضمن هذا الشرط الجديد الذي تم إنشاؤه بواسطة الحروب الماضية واستباقاً لحروب جديدة، أكثر من منطق ساحة المعركة أو المناورة شبه العسكرية. إنه يتضمن البناء المحسوب في أوقات السلم لنظام مكاني من الاختلاف الطائفي والسياسي. وبالتالي سعى هذا المؤلف بالإضافة إلى ذلك إلى الكشف عن الدور المهم الذي تمارسه المنظمات الدينية والسياسية في تشكيل مخططات التخطيط الحضري وتقسيم المناطق وأسواق الأراضي والإسكان وتوفير البنية التحتية.

ترتيب المناطق الحضرية استناداً إلى المنطق العسكري في المدن التي غرقت في دوامة النزاعات

تجاوزاً للظروف المحلية، سعى هذا المؤلف أيضاً إلى توضيح مغالطة قبول الثنائيات الثابتة في دراسة مدن ما بعد الصراع في أطراف بيروت: الحرب والسلام والتنمية المتشابكة والنمو والتعايش والعزل والتدمير والبناء والمنزل والنزوح متشابكة على نحو وثيق. في وقت إجراء هذا البحث، بدت هذه المناطق بدلاً من ذلك بمثابة لوحة مراقبة للظروف حيث كانت الأنقاض نتاجاً للصراع في الماضي والمستقبل في وقت واحد والمناطق السكنية والصناعية متداخلة، وحيث توجد الأحياء المخصصة للتطوير الراقي جنباً إلى جنب مع الفقر المدقع والأزمة البيئية. منذ ذلك الحين، تمت إعادة تشكيل هذه المناطق الجغرافية فقط من خلال دورات جديدة من العنف والتشرد التي لا تزال تعيد تعريف الآخر وتولّد أشكالاً وآليات جديدة للفصل المكاني.
تستدرك الكاتبة نظرة مؤلفها التشاؤمية بالقول: «هذا كله لا يعني بالضرورة أن الحرب قادمة، بل إن المدينة لم تنصهر مكوناتها أو تتوحد بعد». وقد رأت إحدى الكاتبات أن مؤلف هبة بو عكر نقد نسوي وما بعد الاستعمار لجغرافية ذكورية من العسكرة الحضرية التي تفضل المذهل والسامي. هذه الرؤية للمدينة في الحرب تقنية عمياء وخالية من الناس كما لو أنه ينظر إليها من الأعلى (ربما من طائرة مقاتلة). لكن بيروت بو عكر مملوءة بالحياة تحوم بشائعات؛ إنها ليست موقعاً للتدمير مجهول الهوية بل للبناء المحسوب والمعقد. حصل هذا المؤلف على «جائزة نِيكِّي كِيدِّي للكتب» و«جائزة ليدز» المدعومة من «جمعية الأنثربولوجيا الأميركية» (AAA).

* For the War Yet to Come: Planning Beirut›s Frontiers - Stanford University Press - with 31 maps and illustrations - 2018