عندما صدرت «رحلة» عام 2009 («الأخبار» 20/5/2009) لم يكن أصحاب هذا المشروع، واعين تماماً للمسؤولية والالتزام المترتبة عليهم إزاء عملية النشر والتحرير. في تلك الفترة، كان جلُّ اهتمام تلك المجموعة الشبابية اللبنانية، العملَ على خلق أسلوبٍ متميّز له خاصيته الشكليّة: نشرة على شكل جريدة، لكنها تحمل في طيّاتها تصميماً بعيداً عمّا هو متعارف عليه في السائد، غيرَ خاضعةٍ للقواعد البديهية في التقديم والعرض (تتخللها صور وكولاج وكوميكس)، متعاملةً مع المضمون بطريقةٍ ارتجالية، عفوية قريبة إلى الخيال منها إلى الواقع. عُرفت النشرة آنذاك بأنها «غير واقعية، غير مستقلة، حرة». شعار كهذا جاء ليقول بأنّ الـ «رحلة» ببساطة خيالية (محاولة من أصحابها الغوص في السريالية)، منحازة وغير مموّلة من أحد.لكن ما غفل عنه أصحاب هذه النشرة، هو الجديّة في وضع مسار تحريري صريح وواضح، والاتفاق على آليّة عمل مفصّلة، بعيدة كلّ البعد عن العناوين العريضة مثل «مشروع جديد يرفض التصنيف» أو «نشرة لها هوية خاصة» تجعل من مسار عملهم خطاً فريداً يحمل رسالة متماسكة ومضموناً مسهباً بأسلوبٍ فريد، يقارب المواضيع من زاوية مختلفة، حقيقية وموجّهة، تجسّد رؤيتهم للقضايا.


توقفت «رحلة» عن الصدور عام 2013، وفي رصيدها خمسة أعداد. جاء العدد الأخير تحت عنوان «يسقط كوكب العجائز»، وفيه دلالة رمزية على الأنظمة العربية ورؤسائها الذين اهتزت عروشهم إثر الانتفاضات العربية آنذاك. أما الأعداد التي سبقتها، فحملت العناوين التالية: العدد الأول الذي صدر في أيار (مايو) 2009 «يا عمال لبنان قودوا هذا القطيع» عالج الموضوع التالي: «من يحمي العاملات الأجنبيات من عنف المرأة اللبنانية؟». العدد الثاني جاء في حزيران (يونيو) 2009 تحت عنوان «سقوط جدار برلين... من التالي؟» وكان موضوعه الأساسي عن السجون اللبنانية: «واقع يتعارض مع الإنسانية؟». العدد الثالث الذي صدر في تموز (يوليو) 2009 حمل عنوان «علماء عرب يكتشفون فلسطين» وكان موضوعه شباب لبنان في لقاء مع الهجرة ومرارته. أما العدد الرابع الذي نُشر في كانون الأول (ديسمبر) 2009، فقد أتى بعنوان «نحن صورة عن المستقبل» وكان موضوعه الجدار الفاصل الذي بُنِيَ آنذاك في فلسطين، فقاربت «رحلة» الحدث مع جدار برلين ليكون عنوان الموضوع الرئيس «مرايتي يا مرايتي مين أحلى برلين أو فلسطين؟».
اختارت «رحلة» الانزواء والانسحاب من المشهد الثقافي لمدة ستة أعوام تقريباً، بعدما استنتج القائمون عليها، أنّ هنالك شيئاً ما ناقصاً عندهم لم ينضج بعد. قرروا التمهّل وتأجيل مشروعهم إلى وقتٍ لاحق، وقتٍ مناسب أكثرَ حيث تكون الأمور متبلورة وأعمق، تحمل المزيد من الانسيابية والفرادةِ، خصوصاً في ما يتعلق بالمحتوى والمواضيع التي يطرحونها، فراحوا يراقبون عن كثب كلّ المتغيرات والتقلّبات والإنتاجات الثقافية والفنية التي حدثت في كلّ تلك المدة الزمنية بحسٍّ مشترك مصاحب بنزعة نقدية.
هذا التوجّس لخلق وسيلة تعبيرية تحوي مواد جدّية من منظورٍ مختلف، يحمل خلفية ثقافية مقدمة بـ«ديزاين» فنيّ معاصر، بقي يلاحق مؤسّسي «رحلة». قرروا الاجتماع ومناقشة موضوعِ إعادة إصدارها، شرط أن تكون «رحلة» في مسارها الجديد متورطة في الواقع، تجريبية (بالمفهوم الواسع للمصطلح) أي أن تتعامل مع الظواهر والأحداث بنقدٍ ومسافة من الاصطفافات الثنائية، وتحاكي الراهنَ بأسلوب مُحاكٍ فيه تعبيرات انطباعيةٌ مكثفة، مثقلٍ بأفكار ومواقف استناداً إلى موضوع العدد.
هكذا إذاً وُلدت «رحلة» جديدة (رئيس التحرير حرمون حمية ــــ تصميم غرافيكي: حرمون حمية وفراس خليل)، ليس كامتداد تراكمي لتجاربها السابقة، بل كتطوّر فعلي لما قدمته سابقاً، وما هو ضروري ومفقود حسب نظرتها. بقيت أقسامها الأولية موجودة: «كلمة سر» أي المقالات التي تتناول موضوع العدد، و«جغل بيزنطي» يعني مقابلة خيالية ترتكز إلى تقديم أفكار إحدى الشخصيات الفكرية التي لاقت حتفها، وإسقاطها على الوضع الراهن، «ريسيكلاش» أو كولاج وهي لعبة اشتَهر بها السرياليون، بالإضافة إلى أقسام جديدة هي: «مانيفستق» أي المقدمة (ستتغير تسميتها في العدد اللاحق لتصبح «أتموسفير» كون الافتتاحيةِ تعبيراً موجزاً عن الجوّ العام)، ومقابلة حقيقية حسب الموضوع المطروح، تحت تسمية «زوم»، و«تاريخ الطبقة العاملة» وهو تأريخ أحداث من اعتصامات واحتجاجاتِ عمّال ناضلوا ضد السلطات، و«سينماتك» وهي صفحة تُعنى بمعالجة موضوع سينمائي أو تقديم مادة نظرية عن السينما والفنون البصرية.
استلهمت جدارية رسمها مجهول على أحد حيطان بيروت، لتختار موضوع عددها «بدنا نسترجع الوقت المنهوب»


ارتكازاً إلى هذه الأقسام، التي قد تضاف إليها صفحات أخرى، حسب ما تستوجبه الظروف، وبناءً على «العقلية» التي رسمت رؤية الجريدة، تطلعاتها وطريقها، صدرت «رحلة» في كانون الأول (ديسمبر) الماضي بعددها السادس على وقع الانتفاضة التي عصفت بالأحوال اللبنانية. النشرة التي تحمل شعار «تجريبية، سفلية، حرة» استلهمت جدارية رسمها مجهول على أحد حيطان بيروت، لتختار موضوع عددها «بدنا نسترجع الوقت المنهوب».
عنوانٌ كهذا، أتى على شكل تصريح فج، أظهر تلقائياً وبمفرده، هويةَ «رحلة» كمشروع ثقافي يسعى إلى التعامل مع الواقع بالوصف التعبيري، البوحِ المختلف المناهض للسائد، ويطال كلّ شرائح المجتمع على اختلافها، خصوصاً الهامشيين منهم، الذي يعتبرون أنفسهم من الفئة الحرة اللامنتمية إلى التطلعات العموديةً («من تحت») أو السُفليين.
هنالك مسائل تبدو أحياناً بسيطة، بديهية لكنها معقدة، من الجيّد التطرق إليها أو أقله التجريب. هنالك أيضاً بضعة شبان رأوا أن القول الجدّي بات محصوراً بوظائفَ كلاميةٍ تخدم سلطات شتى، ما يُفقدُ صاحبَ القول ميزة خطابه، وتسخّر مضمونه لمصلحتها. أسبابٌ كهذه شكلت وقوداً لـ«رحلة». وكما جاء في مقدمة التعريف عنها: «تتعامل «رحلة» مع الظلال التي تخلّفها السياسة على أرض الواقع. تعيش موضوعاتنا على الهامش ونتوّغل في التفاصيل. أتينا للبوح، للإفصاح، للتعبير لأن القول الجدّي بات محصوراً ببازارٍ موبوء، له مشهد استعراضي أنيق. لغتنا يعني ذواتنا، التي تعني أفكارنا المنحازة حتمَاً، لكن ليس على الطريقة الدوغمائية، الـ «مع» أو «الضد» المعلّبة. نبحث عمن يشبهنا دوماً، لذا لا بدّ إذاً من التنقيب عما هو مختبئ تحت الغشاوة، المدفونِ تحت التراب، ما هو سفليُّ، حرٌّ، صامد. ومهمتنا التجريب، لأننا نبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة، لأننا نفضل التجريدي على العمودي ولا يشدّنا الكلاسيك».
الرحلة مستمرّة والكل مدعوون.

* يمكن تحميل العدد على الموقع التالي: Rehlamag.com ــــ للحصول على نسخة ورقية، يرجى زيارة صفحة «رحلة» على فايسبوك