سوريا: ساعة رمليّة لتصدير الضجر والهباء والهشاشة

  • 0
  • ض
  • ض
سوريا: ساعة رمليّة لتصدير الضجر والهباء والهشاشة
نستعيد معارك الشاعر الراحل ممدوح عدوان في ذكراه الخامسة عشرة وآخر كتبه «حيونة الإنسان»

دمشق | كيف نستعيد المشهد كاملاً؟ الحكاية لا تخصّ عاماً فائتاً فقط، إنّما سنوات الحرب بأكملها. ساعة رمليّة ضخمة لتصدير الضجر والهباء والهشاشة، كما لو أننا في مضافة بدوية حول موقد لصناعة القهوة المرّة، وفي مرآة أخرى، مجلس عزاء مفتوح، فأن تحضر عرضاً مسرحياً ما، ستتحسّر على أفول أمجاد الخشبة السورية في مواسم ازدهارها، وإذا بالعرض المتوسّط، في أحسن الأحوال، يصبح حدثاً استثنائياً، تفترسه أقلام هواة بمديح ما ليس فيه، وبجهالة كاملة الدسم، ذلك أن ترمومتر الذائقة انحسر إلى حدود متدنية، بغياب وانطفاء الحالة النقدية، وتواطؤ الصحافة العابرة مع أصحاب هذه العروض المرتحلة من مهرجان محلّي إلى مهرجان عربي بسطوة أصحابها. هذا الواقع يمكن تعميمه على صناعة السينما والدراما التلفزيونية والكتاب والفن التشكيلي والندوات والمهرجانات الثقافية. حفنة من الأسماء المتكرّرة تتناوب على الوليمة، تجدهم في كل المناسبات، مدجّجين بإنشاء وطني مستهلَك لإثارة الذعر لدى الآخرين، هؤلاء الذين اندحروا نحو عزلة اضطرارية والاشتغال على مشاريع فردية بالكاد تجد مساحة لها خارج بهرجة الثقافة الرسمية. صحيح أن العجلة الثقافية لم تتوقّف عن الدوران طوال العام، لكنّها تراوح في المكان نفسه بإعادة تدوير العناوين نفسها، تلك التي لم تعد تغري أحداً بجدّيتها أو مفارقتها السائدة. ماكيتات جوفاء لمهرجانات وندوات وتكريمات تدعو للتثاؤب، وفضائح يتمّ تداولها في الكواليس، أو على صفحات التواصل الاجتماعي ثم تنطفئ عند حواف موائد المقاهي بوصفها نميمة مسليّة لكسر عزلة الساعة الرملية لا أكثر. في أواخر هذا العام رحل صالح علماني في إسبانيا، صاحب الاسم اللامع في الترجمة، من دون أن تهتمّ وسائل الإعلام المحلية أو المؤسّسات الثقافية بنشر خبر صغير عن وفاته، فيما اعتنت بوفاة المغني المصري شعبان عبد الرحيم الذي غاب في اليوم نفسه، وسوف يثير مثقفو الفيسبوك مراثي بالجملة لرحيل بائع كتب مستعملة تحت جسر الرئيس باعتباره خسارة كبرى للثقافة السورية. قبلها أقيم معرض دمشق للكتاب بمشاركة عربية هزيلة، ورقابة مشدّدة على عناوين الكتب، بما فيها «رقابة القارئ» التي دعا إليها مدير المعرض بتصريح رسمي، وستكرّم أسماء من الصفوف الخلفية للثقافة على هامش فاعليات المعرض، كما لن نستغرب تتويج المطرب جورج وسوف بجائزة الدولة التقديرية عن فئة الفنون(!). اللغط نفسه سيتكرّر في مجال نهب الآثار وتهريبها خارجاً، من دون أن نتأكّد ماذا يجري تماماً، وما صحّة الأرقام المتداوَلة، في مطبخ المديرية العامة للآثار والمتاحف. شاهدنا أفلاماً، وبعضها حصد جوائز من مهرجانات عربية شقيقة، لكن معظمها لم يترك أثراً، بعد العرض الإعلامي لها، وكأنّ كلّ ما حدث، لم يجتز السطح، فليس هذا زمن الإبداع الذي يحفر عميقاً ويترك ندوباً في الروح. لا معارك ثقافية في هذه البلاد، لا سجالات، سنستعيد معارك الشاعر الراحل ممدوح عدوان في ذكراه الخامسة عشرة، وآخر كتبه «حيونة الإنسان» بطبعاته المتعاقبة. الكتاب الذي لخّص فيه ما نعيشه اليوم من تنمّر وطغيان، كما لو أنه ما زال بيننا، كما سنستعيد آخر ما دوّنه المخرج المسرحي الراحل فواز الساجر على ورقة صغيرة كانت في حقيبة يده، كلّما حضرنا عرضاً مسرحياً باهتاً «إن عصرنا هذا هو عصر الضيق. أكلُنا ضيِّق، شرابُنا ضيِّق، زيَّنا ضيِّق، مسكَنُنا ضيِّق، مرتَّبُنا ضيِّق، تفكيرُنا ضيِّق، مطمَحُنا ضيِّق، أفقنا ضيِّق، عدلنا ضيِّق، عالمنا ضيِّق، مصيرنا ضيِّق، موتنا ضيِّق، قبرنا ضيِّق. الضِّيق.. الضِّيق! افتحوا الأبواب والنوافذ… سيقتلنا الضِّيق! افتحوا الأرض والسماء… سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون… سيقتلنا الضِّيق، الضيّق.. الضيّق». هذه الاستغاثة لن يكرّرها مخرج مسرحي آخر، لأننا في زمنٍ لا يشبه ما سبقه، زمن لم يعد يستوعب فرساناً من هذا الطراز، عدا أسماء نادرة أُبعدت إلى خارج الحلبة غالباً. في الشوارع الخلفية، وفي الأزقة الجانبية، سنعثر على مقترحات شبابية في المسرح والسينما وورشات الكتابة تعمل بقوّة الروح وحدها، ولكنّها بالكادر تغادر مربعها الضيّق. والآن، ماذا لو علمنا بأن مجلة «الموقف الأدبي» التي يصدرها «اتّحاد الكتاب العرب» منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم، قد توقّفت عن الصدور منذ ستة أشهر؟ سيجيبك أحدهم بلا مبالاة: وهل هناك مجلة بهذا الاسم؟ ذلك أن منشورات اتحاد الكتاب ومجلاته تصدر بحكم العادة والواجب، ولم يعد لها ذلك الحضور الدسم في المشهد الثقافي منذ سنواتٍ طويلة، فهي حكر على بعض أعضاء الاتحاد. نسمع بجدالات ساخنة حول عقارات الاتحاد واستثماراته الغامضة أكثر مما نسمع عن منشوراته الجديدة.

شهد معرض دمشق رقابة مشدّدة على عناوين الكتب، بما فيها «رقابة القارئ» التي دعا إليها مدير المعرض

نسينا أن نقول بأن الاتّحاد احتفل منذ أسبوعين بالذكرى الخمسين لتأسيسه(!). قبل أن يطوي العام مفكّرته، تكلّلت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» للمرة الأولى بحضور ثلاثة أسماء روائية سورية: سليم بركات عن «ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟»، وخليل الرز عن «الحي الروسي»، وخالد خليفة عن «لم يصلّ عليهم أحد»، فهل ستذهب الجائزة هذه المرّة إلى سوريا التي غابت عن قوائم الجائزة منذ تأسيسها إلى اليوم؟ خارج صخب الجوائز ودهاليزها شهدت سوق النشر العربية طفرة روائية سورية بتواقيع: نبيل سليمان «تاريخ العيون المطفأة» (مسكلياني)، وعبير اسبر «سقوط حرّ» (نوفل)، وممدوح عزّام «لا تخبر الحصان» (سرد)، ونبيل ملحم «إنجيل زهرة» (الريس)، وزياد عبد الله «سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري، ومآثر أسياده العظام» (المتوسط)، وعناوين أخرى عالقة خارج الحدود. شعرياً لا نصوص لافتة، عدا اكتشاف منذر مصري قصائد مجهولة للشاعر الراحل محمد سيدة، كانت شقيقة الشاعر تحتفظ بها، وقد أرفقها مع نصوص أخرى، تحت عنوان «هامش الهامش- الأعمال الكاملة» وصدرت في كتاب عن «دار التكوين»، و«الطروادي الأخير: حوارات محمود درويش» الذي حرّره سعيد برغوثي «دار كنعان»، كما لا يمكننا تجاهل ترجمة الحسين حلّاج لموسوعة لويس ماسينيون «آلام الحلّاج» (دار نينوى)، بعد مئة سنة على صدورها بالفرنسية. من جهته خاض الموسيقي والمغنّي بشار زرقان تجربة غنائية مفارقة بعنوان «إذا هجرتَ» عن نصّ للحلّاج، إذ وجدت نسختها البصرية التي وقّعها المخرج محمد عبد العزيز، خلال بثها على موقع يوتيوب نحو 400000 مشاهدة قبل أن يحجبها الموقع استجابة لتبليغات مجهولة رأيت في الأغنية خروجاً عن الأعراف بظهور راقصة تعبيرية رافقت نصّ الصوفي المعروف. في قائمة الغائبين، فقدَ الوسط الثقافي السوري أربعة أعلام، هم المؤرخ محمد محفّل، والمفكر الطيّب تيزيني، والتشكيلي منذر كم نقش، والباحث محمد شحرور.

0 تعليق

التعليقات