بخجل من الفقراء، نكتب اليوم هذه السطور. نسجّل اعتذارنا المسبق من أولادهم وأحبائهم ولا نتوقّع قبولاً له منهم. نتفهّم ذلك لأننا نعرفهم، ونفهمه لأننا منهم. فالواجب المهني الذي يجبر أجيراً معدوماً على اقنتاء بدلة مرتّبة كي لا يفقد عمله هو نفسه الذي يجبرنا اليوم على إنجاز هذه الصفحة السنوية المسماة «هدايا العيد» في الشق المتعلّق بالإصدارات الموسيقية. العزاء الوحيد هو أنّنا لا نغشّهم، ولو اعتُبِرَت الموسيقى ترفاً ليس من أولوياتهم بالأساس، وليس في هذه الأوضاع على أيّ حال. فنحن نقترح هدايا نعرف أنهم لن يشتروها ولن يهديهم أحدٌ إياها: فالطيور على أشكالها تقع، طبقياً. رغم كلّ ذلك، هذه اقتراحاتنا، وأوّلها وأهمّها، الحدثان الكبيران في مجال الموسيقى الكلاسيكية الغربية وهما من مصدرَين مختلفَين ولكن باتّجاه واحد: ذكرى ولادة المؤلف الألماني الشهير بيتهوفن.للمناسبة، شهد عالم الديسك، الشهر الماضي، إصدارَين لأعمال بيتهوفن الكاملة، الأوّل للناشر العريق «دويتشيه غراموفون» والثاني لـ«وارنر» (Warner)، منافسه شبه الوحيد في السوق اليوم، بعدما علّق أكثر من ناشر نشاطاته في العقدَين الأخيرين، بالإضافة إلى حالات الدمج التي أنهت المسيرة المهنية لكبار الأسماء في عالم تسجيل ونشر الموسيقى الكلاسيكية.
في إصدار «دويتشيه غراموفون» أسماء الأساطير الراحلة في أداء أعمال بيتهوفن

نبدأ من الإنجاز المتوقّع والكبير الذي قدّمه للجمهور ثانياً، وللتاريخ أولاً، الناشر الألماني الأعرق في مجاله، «دويتشيه غراموفون». فبعد موزار (2016) وباخ (2018)، ها هي العلبة الثالثة المخصّصة لأعمال بيتهوفن الكاملة ترى النور، خارجةً من مصنع الدقة والأناقة والعراقة والجمال الذي يمثّله هذا الناشر الذي يعلو ولا يُعلى عليه. إنه إنجاز سهل نسبياً للألمان الذين سبق أن نشروا، قبل نحو عقدَين، علبة ضخمة حَوَت «كل بيتهوفن» (87 CDs) في الذكرى المئوية لتأسيس «دويتشيه غراموفون» (احتفل بعيده الـ121 منذ بضعة أسابيع). يضاف إلى ذلك أن بيتهوفن هو المؤلّف «الأول» من حيث اهتمام هذا الناشر به، وريبرتواره الخاص بأعماله يعتَبَر الأضخم والأهم في تاريخ التسجيل. يضاف أيضاً، أن مَن أنجز أخيراً «كل موزار» (200 CDs) ثم «كل باخ» (222 CDs) يصبح «كل بيتهوفن» (118 CDs) تحصيل حاصل، لا يتطلّب مجهوداً استثنائياً، رغم استثنائية الإصدار من حيث المضمون. أمّا الفارق في عدد الأقراص بين المرة السابقة (87) وهذه المرّة (118)، فهو الأعمال الجديدة التي اكتشفت لبيتهوفن خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى الكمّ الكبير من التسجيلات التاريخية للأعمال الشهيرة التي امتدّت على 21 قرصاً هذه المرة مقابل 6 في الإصدار السابق، وذلك بفعل التسجيلات التي حصلت خلال السنوات العشرين الأخيرة، والأهم بفعل ضمّ الناشر الألماني كاتالوغ «ديكا» العريق تحت جناحه (الذي كان قد استحوذ بدوره على كاتالوغ «فيليبس» الغنيّ).
باختصار، نجد في هذا الإصدار أسماء الأساطير الراحلة في أداء أعمال بيتهوفن بكلّ فئاتها الكبيرة، بالإضافة إلى بعض النجوم المخضرمين والجدد، وهذا بعضها: كارايان، كارلوس وإيريش كلايبر، فورتفانغلر، أبادو، غاردينر، كامبف، غيللز، أراو، برندل، بوليني، «رباعي أماديوس»، «رباعي هاغن»، وغيرهم العشرات من الأسماء التي أغنَت الديسكوغرافيا الكلاسيكية منذ أرتور نيكيش (قائد أوركسترا برلين بين 1895 و1922، وصاحب أوّل تسجيل للسمفونية الخامسة لبيتهوفن عام 1913، وذلك لصالح «دويتشيه غراموفون» طبعاً!).
إلى المادة المسموعة، تحوي هذه التحفة «النهائية» تسجيلَين مصوّرَين مهمَّين: العمل الأوبرالي الوحيد لبيتهوفن، «فيديليو»، بقيادة ليونارد برنشتاين والسمفونيَّتان رقم 4 و7 بقيادة الجميل كارلوس كلايبر (وهو التسجيل الثاني للرابعة والثالث للسابعة مع هذا القائد الكبير). أما حبة الكرز على قالب الحلوى، فثلاثة أقراص Blu-Ray Audio ذات السعة الكبيرة ونوعية الصوت العالية وتحوي على التوالي: سمفونيات بيتهوفن التسع مع كارايان (تسجيل السبعينيات، على اعتبار أن الرجل سجّل هذا العمل ثلاث مرّات للناشر ذاته، في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بالإضافة إلى تسجيل رابع، بالصوت والصورة، في الستينيات/ السبعينيات)، سوناتات البيانو الـ 32 مع فيلهلم كامبف (تسجيل الستينيات، على اعتبار أن الرجل سجّل هذا العمل وللناشر ذاته في الخمسينيات)، ورباعيات الوتريات الـ 16 مع «رباعي أماديوس».
في المقابل، نشر «وارنر» علبة مشابهة، للمناسبة ذاتها، وفيها الأعمال الكاملة لبيتهوفن، لكنّها «مضغوطة» بـ 80 CDs فقط، علماً بأنّ فيها أيضاً بعض النوادر والتسجيلات المرجعية الإضافية لبعض الأعمال الكبيرة. مع الإشارة إلى أنّ معظم الفئات الكبيرة، تسجيلاتها مأخوذة من كاتالوغ EMI العريق، الذي اشتراه أخيراً «وارنر»: سوناتات البيانو مع كوفاسيفيتش، سوناتات الكمان والبيانو مع الثنائي كابوسون/ برايلي، رباعيات الوتريات مع «رباعي أرتيميس»، «فيديليو» والقداس الاحتفالي مع أوتو كلمبرر. لكن في ما خصّ السمفونيات، اختار «وارنر» من كاتولوغه الأساسي تسجيل نيقولاوس أرنونكور.
المهووسون سيهدُون أنفسهم (أو سيتمنون لو يهدَوْن) العلبتَين، ولو أن معظمهم يملك الكثير من هذه التسجيلات بالأساس. الجادّون سيختارون إصدار «دويتشيه غراموفون» ليهدوا نظراءهم أو أنفسهم. لكي يبقى إصدار «وارنر» مفيداً للجميع، من بينهم الهواة أو حتّى من لا تسمح له ميزانيته بالخيار الآخر. علماً بأنّ ثمن الإصدارَين زهيد نسبةً إلى قيمتهما الفنية والمعنوية والجمالية: حوالى 250 دولاراً أميركياً لـ«دويتشيه غراموفون» مقابل 100 دولار لـ«وارنر».