تصادف اليوم ذكرى رحيل الشاعر سعيد عقل (4 يوليو 1911 ــــ 28 نوفمبر 2014). في هذه المناسبة، نتوقف عند أحد فصول علاقته مع الأخوين رحباني وفيروز. هام سعيد عقل بفيروز والأخوين رحباني، وكان من أصدقائهم المقربين وشعرائهم المفضلين ومن أشدّ المدافعين عن أعمالهم. خصّ هذه الأخيرة خمس مرات بجائزته الشهرية التي أنشأها في صيف ١٩٦٢، يوم عيد ميلاده الخمسين، مكافئاً بألف ليرة «من يزيد لبنان ذرّة من جمال» نالتها فيروز عن مغناة «عودة العسكر»، ويوسف شاهين عن فيلم «بياع الخواتم»، وعاصي الرحباني عن مسرحية «أيام فخر الدين»، وصبري الشريف عن جولة فيروز في أميركا عام ١٩٧١، ومنصور الرحباني عن «المحطة».
هنا استعادة لظروف ولادة «عودة العسكر» التي رافقها سعيد عقل عن كثب.


يوم الوفاء
في آخر عام ١٩٦٢، تأسّست لجنة «يوم الوفاء»، قوامها سعيد عقل، عفيف الطيبي نقيب الصحافة، جميل لحود نائب قضاء المتن، والمحامي عبد الله بشارة الخوري، وكان هدفها ـــ بمساعدة لجنة مهرجانات بعلبك ــــ تنظيم حفلة غنائية لفيروز في ذكرى محاولة الانقلاب التي قام بها الحزب السوري القومي في ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٦١. حفلة يعود ريعها لأطفال شهداء الجيش الذين سقطوا آنذاك، وتكون الأولى لفيروز في بيروت. انهمك الأخوان رحباني بتحضير البرنامج و«تفتّقت عبقريتهما عن مغناة «عودة العسكر» بثلاثة أيام» حسب بعض الصحافة: مغناة تمثّل مجموعة من الفتيات ينتظرن عودة الجنود من الجبهة، حاملات لهم هدايا من المناطق اللبنانية، تغني فيها فيروز «هلّي عالريح» (لحنها الأساسي من أغنية «عالشيح القز» من مسرحية «موسم العز»)، و«بتتلج الدني» المهداة لـ «سالم» قائد الجنود الذي مات مشرعاً سيفه، و«معافى يا عسكر لبنان». المغناة القصيرة أُعدّت لختام الحفلة. أما قصيدة الأخطل الصغير («بيروت هل ذرفت») التي كُتبت خصيصاً للمناسبة، فستغنّيها فيروز في الافتتاح. وكان الموعد: الأحد ٣٠ كانون الأول ١٩٦٢ في مسرح «الكابيتول» وسط بيروت. الحفلة جوّها رسمي. الصفوف الأولى يملؤها سياسيون وعسكريون وعلم لبناني كبير يلفّ مقصورة الأوركسترا أمام المسرح. عبد الله الخوري يلقي كلمة يجيّش بها الجمهور، وتتوالى عناوين البرنامج: بين قصيدة الافتتاح ومغنّاة الختام أغنيات ورقصات منوّعة وتوليفة من مسرحية «جسر القمر» التي قُدّمت صيف ذاك العام في بعلبك ودمشق.

تجلّيات الصوت
بعد يومين من الحفلة، أقامت قيادة الجيش في النادي العسكري تكريماً لكلّ المشاركين فيه (الرحبانيان، فيروز، المخرج صبري الشريف، فرقة مهرجانات بعلبك واللجنة المنظمة). وفي ٥ كانون الثاني (يناير) ١٩٦٣، أعلن سعيد عقل فوز فيروز بجائزته، عن كانون الأول، «تقديراً لغنائها الساحر» في «عودة العسكر»، قائلاً: ««عودة العسكر» أوبريت مركزة كان عليها أن تؤلف بين متناقضات: حمّى شعب وقلق صبايا على متحاربين، جهورية صوت يخاطب الجند نابعة من غنائنا الفولكلوري المعافى، ونضارة لا تتوافر سوى في مناجاة الحب الحميمة.
في ٥ كانون الثاني ١٩٦٣، أعلن سعيد عقل فوز فيروز بجائزته «تقديراً لغنائها الساحر» في «عودة العسكر»

قدرت فيروز بتجليات صوتها الجم أن تستجيب إلى كل ذلك في فنّ أريد هذه المرة جديداً ولو على ذاته. وإذا بـ «عودة العسكر» قطعة غير عادية المستوى، خليقة بأن تلهب حماسة جيشنا وتحتلّ مكانها في تراثنا البطولي الأنيق. يسعد منشئ الجائزة أن يستقبل الفنانة العزيزة، بحضور ممثّلي الصحافة، في دار نقابتهم، الساعة الحادية عشرة من الثلاثاء ٨ كانون الثاني ١٩٦٣» (1) ودار النقابة في مبنى اللعازارية، على بعد أمتار من مسرح «الكابيتول» حيث كان لفيروز ما كان من نجاح في «يوم الوفاء».

أخت الملائك
‏تزامنت هذه الحفلة مع برنامج فيروز المتلفز الثاني «أيام الثلج» (ضمّ أغنيات ميلادية وأخرى مُهداة لفلسطين وعُرضَ في في ٢٣ كانون الأول ١٩٦٢)، وكان برنامجها الأول - «حكاية الإسوارة » - قد بُثّ في أيار (مايو) من العام نفسه. هكذا بدأ حضور فيروز التلفزيوني يرافق حضورها الحي الذي كان يقتصر وقتها بشكل عام، في لبنان، على مهرجان بعلبك. وكان برنامج فيروز التلفزيوني الثالث في ٦ أيار ١٩٦٣، يوم أَعد «تلفزيون لبنان والمشرق» سهرة حافلة في مناسبة عيدَي الشهداء والأضحى، تبدأ بإعادة لـ «حكاية الإسوارة»، تليها مشاهد غنائية وفكاهية لا علاقة للأخوين رحباني بها. أما القسم الأخير من البرنامج، فمخصّص لأغنيات منوّعة لفيروز واسكتش لفيلمون وهبي ونصري شمس الدين والختام مع مغناة «عودة العسكر» التي التُقطت بعض مشاهدها في الهواء الطلق. كتب سعيد عقل في «لسان الحال» عن السهرة المنتظرة قبل عرضها، بعدما حضر آخر التجارب وسمع التعديلات والمقطع المضاف في آخر المغناة («برجك عيد») والذي في إحدى حواراته ـــ «تسلم ايد علّت هالعماير» ــــ يلمّح، حسب عقل، إلى الرئيس فؤاد شهاب «أبي الجيش وباعث العمران». بنبرته الشهيرة، يمدح سعيد عقل الأخوين رحباني ويشكرهما «على ما يبنيان كل يوم للبنان» وعلى جعلهما «اسم جيشنا بسمة على كل شفة»؟ جيش «يستحق أن يسمع امتنان اللبنانيين جميعاً بلسان أخت الملائك»، أي فيروز.

* 1: وُزِّع هذا النص على بعض الصحف وطُبع لاحقاً على الغلاف الخلفي لأسطوانة «عودة العسكر» التي صدرت أواخر عام ١٩٦٣.