غاب عنّا ميشال إده في 4/11/2019. غاب عنا ميشال إده، وهذه حال الدنيا وسنة الله في خلقه، وبقي ذكره العطر وأعماله الخيّرة. غاب الجسم الفاني وبقيت الابتسامة المشرقة والمحبة، تفيض من نفسه المسيحية المؤمنة لتفيض بدورها على من حوله بشراً وفرحاً، وربَّ قائل إنه ساعد المسيحيين أكثر مما ساعد غيرهم، أوليس وهذا أمراً طبيعياً (الأقربون أولى بالمعروف). ولكن ميشال إده لا يتأخر عن المساعدة إذا لاذ به محتاج بغض النظر عن الاعتبارات الدينية والمذهبية، فإن أنسى لا أنسى أنه عندما أنشأت «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» في بيروت صندوقاً، يموّل من التبرعات، لمساعدة التلامذه المحتاجين، كان ميشال إده أول متبرع لهذا الصندوق.
وميشال إده عالم منصف لا تحول بينه وبين الحق مصلحة عابرة أو تعصّب مقيت. حدثني يوماً عن العثمانيين وعلاقتهم بلبنان، فكان العالم الماروني الوحيد الذي أشاد بهذه العلاقة ورأى فيها، في الظروف التي أحاطت بالحقبة الأخيرة من حياة الدولة العثمانية، جوانب إيجابية لم أرَ مثلها عند المحدثين، مسلمين ومسيحيين، ممن كتب عن تاريخ لبنان الحديث، ذلك أنه لم يكن في فكر وقلب ميشال إده مكانٌ للبغض أو ميل لتحريض الناس على الحقد والضغينة.
أحبَّ ميشال إده العلم ومؤسساته، أحب الأدب والفن والثقافة عامة، فساعد هذه المؤسسات وطلبة العلم. وعندما أُسندت إليه وزارة الثقافة قَبِلها رغم عزوفه عن الوظيفة السياسية. وإنما تولى وزارة الثقافة لدعم العلم والعلماء والأدباء والشعراء ولكي يكون لبنان وزارة ترعى هؤلاء، تستحق الذكر، استقبل مكاتب وزارة الثقافة في مكتبه الخاص وأنفق على الوزارة وموظفيها من ماله الخاص، فهو بعمله هذا كان الإنسان الوحيد الذي أعطى الدولة ولم يأخذ منها، وأنشأ وزارة ما كان لها أن تنشأ لولا ما قدّمه لها من دعم مالي وجهد شخصي.
وأحبَّ ميشال إده الحياة وأقبل عليها بسعادة واضحة، ولعلّه ضحك من الحياة والأحياء جميعاً يوم أدخل السعادة على من حوله، تارة عبر الأفلام وتارة عبر هوايته لفن الطبخ... وكان يضحك من كل قلبه يوم ذكر الممثلين الهزليين أمثال فرناتديل ولوي دو فونيز.
ولئن كان للضحك والمزاح مكان في حياته، فإن الأمور الجدية كانت تستأثر بكل وقته، بل لعلّ الفكاهة والنفس الفرحة هي التي ساعدته على تحمّل هموم الحياة في زمن كان وطنه يعيش أزمات، بل حرباً مريرة.
وعكف على دراسة اليهودية والصهيونية، فرأى في الصهيونية خطراً داهماً لا على العرب فحسب، بل على اليهودية نفسها، فكتب وحاضر في هذا الموضوع بعمق مشهود.
ورغم كل ما أحاط بميشال إده من ظروف تبعث على التقوقع والبعد عن الناس، بقي المحب للبنان وسياسييه وسائر رجالات الحكم في الوطن العربي، وأبقى نافذة مشرعة على الفكر واللغة الفرنسية الذي نشأ في مؤسساتها وبقي وفيّاً لها.
هذه نبذة عاجلة أكتبها غداة وفاة الأستاذ ميشال، اللبناني الأصيل، المؤمن والمنفتح على العرب والناس، اعترافاً بفضله وتقديراً لعلمه وكرمه وإنسانيته.
وبعد، فقد قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم، انقطعت صلته بهذه الدنيا إلا من ثلاث: صدقةٌ جارية، وعلم يُنتفع به، وولدٌ صالح يدعو له».
وقد اجتمعت هذه كلّها لميشال إده.