يدخل فرهاد أهرارنيا (1971) التاريخ من زاويته المرئيّة. زاويته للوصول إلى طبقات الصور الفوتوغرافية واللقى الأركيولوجية والتقاليد الفنية في بلاد فارس ولوحات المدارس العالمية الحديثة. يعتمد الفنان الإيراني في ممارسته المفاهيميّة على الظهور البصري وجماليّاته، حيث تبديل وخربطة مواقع وسياقات بعض العناصر الشكلانيّة هما طريقه إلى الحفر في المعنى. التوجّه الجمالي المكثّف، والموجز أحياناً، يمنح العمل الفني والوثائق المستخدمة حيوات أخرى هي تأويلات لتاريخ الفن كما للتاريخ السياسي خصوصاً الاستعمار الذي يتكرّر في أعماله. معرضه «الفن في لغة أخرى»، هو بالضرورة دعوة إلى تلقي الصور بعين جديدة، وتشريع الأزمنة والمدارس الفنيّة على بعضها، حيث تنتفي فيها سلطة واحدة على الأخرى، خصوصاً الغربية منها. بعدما عرضت أعماله في «بيروت آرت فير» أخيراً، تستضيف «غاليري جانين ربيز» (الروشة ــ بيروت)، بالتعاون مع «روز عيسى بروجكتس» معرض أهرارنيا الأوّل في بيروت الذي يستمرّ حتى 24 تشرين الأوّل (أكتوبر).
«امرأة في العالم العربي» (إبر معدنية وتطريز يدوي ملوّن على فوتوغرافيا رقمية منقولة حرارياً إلى رقعة بولييستر ــ 40.5×26 سنتم/ 2016 ــ 2019)

يضمّ المعرض أربع مجموعات أنجزها الفنان بالتعاون مع الحرفيين اليدويين في بلاده من صائغي الفضّة وصانعي فسيفساء الخاتم والعاملين في التطريز، وغيرها من الحرف الإيرانية التقليدية. ولأنه في لبنان، خصّص الفنان واحدة من مجموعاته «حفر» للآثار والأركيولوجيا في صيدا. يعمل أهرارنيا بين مدينته شيراز ومدينة شيفيلد البريطانيّة، اللتين تشتركان بروابط ثقافيّة يستثمرها في أعماله، أبرزها التطريز اليدوي وصناعة الفضّة. ويختصر عمله بأنه اكتشاف التوتّرات المختلفة الناتجة عن محاولات الفنانين الإيرانيين المعاصرين بالتوفيق ما بين إحساسهم العميق بالتقاليد وبين تبعات الحداثة. هكذا يجد سبلاً عدّة لاستخدام وتوظيف الإرث الفارسي الحرفي والتزييني، فيفتحه على المدارس الفنية الحديثة الأوروبيّة والروسيّة. وإن كان فرهاد يحتفظ بشيء من حساسيّته الفارسية، إلى جانب التقاليد الفنية القديمة، فهو يتمثّل في رؤيته للعالم وللزاوية التي يراه منها، ويقبض من خلالها على سرديات موازية تاريخية أخرى. هذا ما فعله في السابق في مجموعة «أميركا» التي استعان فيها ببورتريهات للسكّان الأصليين الأميركيين، لكنه أضاف إليها خيطانه الملوّنة ليطرّز على كلّ منها عبارة «أمريكا». خيطانه الملوّنة نفسها تمتدّ إلى معرضه البيروتي وتحديداً إلى مجموعته «امرأة في العالم العربي» التي تطلّ مجدداً على تقسيمات الشرق الأوسط. يستخدم أهرارنيا صوراً التقطتها البريطانية غيرترود بيل (1868 ــ 1926)، التي ساهمت رحلاتها في العشرينيات في تخطيط وتقسيم الشرق الأوسط واستعماره، خصوصاً في العراق حيث عملت لسنوات كمساعدة للمندوب البريطاني بعد الحرب العالميّة الأولى. صورها للعراق التقطت بعين المستعمر.

«ورود الصحراء ــ ما بعد ماتيس» (تطريز يدوي على قماش عسكري ــــ 63× 57.5 سنتم/ 2012 ــ 2018)

وهي التي يبني عليها أهرارنيا مجموعته. لا يدع الماضي للتلاشي. في السابق، استعان المستعمرون بالمساطر والخطوط المستقيمة والخرائط لتقسيم الأرض. أما أهرارنيا، فيستخدم الخيطان الملوّنة والإبر لرسم خرائط جديدة فوق صور بيل للعراق (منها لقطات للآثار العراقية ولبعض الرجال بالعباءات)، فضلاً عن إضفائه لغة بصريّة محليّة على جغرافيا محليّة، مشوّشاً على الأداة الفوتوغرافية وصورها السوداء والبيضاء. كأن هذه الخيطان تنسج وجهة النظر التي أعدمتها آلة الكاميرا الاستعمارية. وما يمنح الصور المعدّلة جماليتها هي الخيطان الفالتة والإبر الفضيّة التي يتركها مغروزة على سطح الصورة كأنها لا تتوقّف إلا لتستمر لاحقاً، كأن التاريخ مثل النسج تماماً يبقى مفتوحاً ومشرّعاً على المستقبل وتدخلاته اللاحقة. لا يصب استخدام الفنون التقليدية الفارسيّة في الماضي حصراً. مع أهرارنيا تكتسب هذه الحرف اليدوية أبعاداً سياسيّة وجماليّة، فتصبح منظوراً محليّاً للرؤية والتأويل للأحداث والفنون العالميّة. هذا ما نراه في «خاتم» حيث يستعيد تقنيات فن الخاتم الفارسي المعقّدة، ويدمجها مع خطوط التجريديين والبنائيين الروس منهم ماليفيتش، وكاندنسكي الذي تأثر بدوره بالفن الإسلامي والأرابيسك. يشتهر فن الختم كفنّ تزييني على الخشب منذ مئات السنين، خصوصاً في مدينتي شيراز وطهران، وفيه تستخدم الرقاقات المعدنيّة والذهبية والفضية، وقطع دقيقة من العظام والخشب المطلي لبناء أنماط هندسيّة مسطحة ومتداخلة لتزيين الطاولات والصناديق وعلب كتاب القرآن أحياناً.
يستخدم الخيطان والإبر لرسم خرائط جديدة فوق صور البريطانية غيرترود بيل للعراق


في لوحاته النافرة المعروضة في الغاليري، يصنع الفنان فسيفساء الخاتم على الخشب، لكن ضمن قوالب تجريدية مستلهمة من المدارس الروسية أبرزها أشكال المعلّم كازيمير ماليفيتش. لا يتوقّف الفنان عن التجريب في المواد والأنماط البصرية، فكل من المجموعات المعروضة تقوم على مفارقتها الخاصّة، ولو أن الأسلوب يكون مشتركاً أحياناً. في «ورود الصحراء» (ما بعد ماتيس) يبقي على تقنيّة التطريز اليدوي ليحيك قصاصات هنري ماتيس الملوّنة. هذه الأعمال التي أنتجها الفنان الفرنسي في آخر حياته بالتزامن مع مرضه نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات تشبه الرسم بالمقص. رغم أنها تتخذ أشكال الزهور الملوّنة، إلا أنها ترتبط بفترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، لكن أهرارنيا يعمق لحظتها السياسية حين يصلها بالحروب المعاصرة. على أقمشة عسكرية مختلفة، يطرّز نقوش ماتيس الملوّنة الفاقعة بأحجام مشابهة لأحجام النقوش العسكرية. وصف هذا العمل بأنه دعوة إلى السلام العالمي سيكون مختزلاً ومباشراً. إذ أنه يتعدّى هذا التوصيف بالتهكّم، وبالمرح والسخرية التي تختصر الجيش كله في نقوش شكلانية ومساحة للهو، مجرّدة إياه من وقعه العسكري القاسي. يتضمّن المعرض أعمالاً أنجزها بين 2012 والسنة الحالية، أحدثها مجموعة «حفر» التي تحتفي بالإرث الأركيولوجي اللبناني بالاستناد إلى بعض المنحوتات واللقى في المتحف الوطني في بيروت الذي زاره الفنان مراراً قبل المعرض. العمل عبارة عن ثلاثة مجارف نحاسية مطلية بالفضةّ، حفر عليها أهرارنيا بعض الوجوه والأحصنة لشخصيات التماثيل التي عثر عليها في مواقع مدينة صيدا الأثريّة، كأنها دعوة إلى النبش في طبقات التاريخ المتعدّدة.

* «الفن في لغة أخرى» لفرهاد أهرارنيا: حتى 24 تشرين الأوّل (أكتوبر) ـــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة ــ بيروت). للاستعلام: 01/868290