غاب أول من أمس الناقد والأكاديمي الأميركي هارولد بلوم (1930- 2019)، أحد آخر القلاع النقدية في العالم. عناوين مثيرة وخرائط نوعية، وهوس قراءة، في تشريح الأدب العالمي وتأصيله بمنظور مختلف. مجازفته الأولى تتعلق بتقديس شكسبير. «شكسبير هو الله» بمثل هذا العبارة الحاسمة يضع أعمال شكسبير على علوٍ شاهق، فيما ستكون شخصية «هاملت» قصيدة لا محدودة. ثقافته الموسوعية قادته إلى تفكيك أعمال شعراء وروائيين كبار ووضعها في خزانة سحرية بعيداً عن الفضاء الملوّث لكتابات الآخرين. كتابه «قلق التأثر» (1973) ينطوي على فكرة مبتكرة في معنى التأثر والنفوذ بين السلالات الشعرية المتعاقبة، مؤكداً أن الإبداع «لم يكن انحناءً ممتناً للماضي، بل هو مصارعة فرويدية نفى فيها الفنانون أسلافهم الأدبيين وشوّهوهم أثناء إنتاج أعمال كشفت عن ديون لا لبس فيها». وسوف يعود في كتابه الأخير «تشريح آلية النفوذ الأدبي» إلى تبجيل أصحاب الأعمال الكبرى، معتبراً أن الأدب «طريقة حياة»، محاولاً تفكيك شجرة النسب للأعمال الأدبية سواءً لجهة تاريخيتها أو أصالتها، بخلع الأقنعة نحو الجذور، لكشف خدعة النفوذ الأصلي أو المستعار، بالاتكاء على منجز فرويد في التحليل النفسي، بقصد معرفة «التاريخ الداخلي للأدب» وإعادة سلطة النص لصاحبه، مهما كانت اللطخة اللاحقة كثيفة ومراوغة وملتوية «إن النقد الأدبي شخصي وزاخر بالانفعالات» يقول. هكذا يؤسس بلوم طريقته الذاتية في النقد، باصطياد فرائسه من الأعمال الخالدة. في كتابه «كيف نقرأ ولماذا؟»، يضع مجموعة من الكتب النافرة فوق طاولة التشريح بوصفها علامات فارقة في الأدب، مستحضراً أرواح كافكا، وتشيخوف، وموباسان، ونابوكوف، وإليوت لإشباع حاجتنا لقراءة الواقع حيناً وما بعد الواقع أحياناً. هنا يستعيد «دون كيخوته» لسرفانتس باعتبارها «الإنجيل الإسباني». كما يعرّج على أعمال دوستويفسكي ومارسيل بروست، وديكنز، في قراءات مضادة تضيء ما هو مخبوء ومهمل في نقد الآخرين لهذه الأعمال، بنظرة أبيقورية تمنح الفن قوة عليا غير قابلة للمساومة. اكتشافات بلوم لا تتوقف عند حدّ، إذ لطالما أعاد الاعتبار إلى أسماء وعناوين وخرائط بانورامية. ففي كتابه «عبقرية»، يرمم قراءاته بفسيفساء من العقول الإبداعية بقوس مفتوح يبدأ من الكتاب المقدّس وسقراط وشكسبير ودانتي وصولاً إلى فولكنر، والطرق المذهلة لتأثر نصٍّ بآخر. في كتابه «الشياطين»، يجلب حشداً من الأسماء إلى منصة واحدة في حواريات متبادلة تنطوي على إضاءة ما هو خفي ومستتر في نصوصهم. يتساءل بلوم أخيراً: «ما الذي يجعل من كاتبٍ ما ومن أعماله مرجعاً أو معتمداً أدبياً على مدار التاريخ؟». وكانت الإجابة عن السؤال بعد رحلة البحث الطويلة ببساطة شديدة: «الغرائبية، تلك الحالة من الأصالة المهيمنة على كلّ عمل، أصالة لها بصمة واضحة لا يمكن تقليدها، ولا الفكاك من الوقوع في أسرها… لا أرى فرقاً بين الجمال والغرائبية داخل كل نصّ أدبي عظيم، تاريخ النصوص الكُبرى يقفز من غرائبيةٍ إلى أخرى، من «الكوميديا الإلهية» لدانتي وصولاً إلى «نهاية اللعبة» لصمويل بيكيت». هذا الشغف بالكتب والقراءة وضع هارولد بلوم في جزيرة معزولة عن الميديا الجديدة والثقافة الشعبية، إذ وصف الثقافة الإلكترونية بأنها خطر عظيم على العقل، لأنها تفتقد إلى المرشد وغياب السلطة الثقافية.
قال عنه جيمس أنجيلوس: «بلوم يجلب لنا النار والضوء، وأدوات ملائمة للقراءة في الظلام». ويعلّق مايكل ليندغرين في «واشنطن بوست»: «يفكّر بلوم في اكتساح آلاف السنين، في الأنماط الفكرية التي تتكشف على مرّ القرون، في متاهة واسعة ومتشابكة من الترابط بين الفنانين».