«المحتضر» كلمة ما زالت تتكرر خلال العقدين الفائتين في الوسط الثقافي اللبناني، في توصيف اتحاد الكتّاب اللبنانيين، خصوصاً في وسط بعض أعضائه والمنتسبين له. لكن ترددها وإعادة تكرارها، يرتبط بشكل مباشر في الفترة التي تكون فترة إعلان إحدى دوراته الانتخابية التي تجري أو جرت كل سنتين، على مدى تلك المدة الزمنية من عمر الاتحاد، فيكتب البعض ويصرّح البعض الآخر، ويتبنى الكلمة آخرون؛ وما أن تنتهي الانتخابات حتى يصمت الجميع، ويستمر الاتحاد، وتمضي هيئته المنتخبة في عملها دون حسٍ أو خبر من أحد.هكذا كانت الأمور، وقد خضتُ هذه التجربة في ثلاث دورات انتخابية، كنتَ فيها نائب الأمين العام، ولذا اعتبر نفسي شاهداً من أهله، لي الحق في السؤال والعرض والشهادة، ويقع عليّ واجب المساءلة وواجب الإجابة.
من هنا طرحت أو أطرح هذا التساؤل: أما آن لهذا «المحتضر» على مدى عشرين عاماً أن يموت؟! أما آن له أن يستريح من هذا الوصف المباشر وغير المباشر؟
إن الاحتضار صفة ملاصقة للقبر، وتطلق على لحظات النهاية، لكن.. أن يستمر بالحياة ونسميه محتضراً، فهذا يعني أن احتضاره كاذب، أو أن من يصفه بهذه الصفة لا يحسن التوصيف، أو أن هناك من يضمر شيئاً آخر.
والعجيب أن هذا «المحتضر» تتسلط عليه الأحزاب السياسية، كما يدعون، والأعجب أننا نسمع بعض الأصوات مؤخراً، تصف إدارته بالميليشيات، فلا أدري كم له من مقدرات ليرغب أحد ما بالتسلط عليه أو عليها، وكم له من قدرة ليكون ميليشياوياً، والمفترض أنه يعاني من سكرات الموت كـ«محتضر».
والمستهجَن إلى حدّ الغرابة، أن يكون على حافة القبر كل هذا الزمن، وفي الوقت نفسه يكون حاضراً في أغلب النشاطات الثقافية في لبنان، بدءاً من أنشطته ومروراً بسائر مشاركاته، فبناء لمجمل التقارير التي قدمتها هيئاته الإدارية المتعاقبة، في اجتماعات جمعيته العمومية السنوية ومنها اجتماعاتها للانتخابات، فإن حضوره، بين أنشطة يقيمها من مؤتمرات وندوات، وبين أنشطة يشارك فيها إما برعاية أو بتعاون أو بمشاركة باسمه كاتحاد، ممثلاً بأمين عام أو بأحد أعضاء الهيئة الإدارية، قد بلغ المعدل الوسطي فيها أكثر من مئة نشاط سنوياً، من مهرجانات ومؤتمرات وندوات وتكريمات وتواقيع كتب، ومعارض ودعوات رسمية وأهلية ثقافية وفكرية، وهذا في لبنان فقط، عدا عن مشاركاته المتعددة خارج لبنان، إما بدعوة من الاتحاد العام للكتّاب العرب أو بدعوة من اتحادات أو مؤسسات ثقافية عربية، ونسميه محتضراً! ولمن يرغب من أعضائه أو ممن يدعي احتضاره، أن يتأكد، يمكنه مراجعة أرشيف تقريراته السابقة في مركز عنايته الفائقة، المسمى مقر اتحاد الكتّاب اللبنانيين.
عمل اتحاد الكتاب اللبنانيين ضمن إمكانات مالية متواضعة. ففي العقد الأول من العقدين السابقين وقد كانت ميزانيته من خلال وزارة الثقافة حينها تساوي مئة وعشرين مليون ليرة لبنانية، وفي العقد الثاني منهما - من دون سبب واضح، وإن شئت قل: ظلماً وإجحافاً بحق الكتّاب اللبنانيين - تم خفضها إلى عشرين مليون ليرة لبنانية. ومع ذلك لم تترك هيئاته الإدارية المتعاقبة جهداً في سبيل توفير ما يعينها على الاستمرار من تبرعات وتقدمات، كانت تُصرف بتوازن ودراسة في أنشطته، ومعاونة أعضائه، بين إعانة هنا أو طباعة كتاب هناك، أو محاولة جادة في إعادة منبره الفكري والثقافي من خلال مجلته الدورية، أو كل ما يسهم برفع شأنه وحضوره اللبناني.
إنني كشاهد من أهله، أؤكد أنه، لم يَطلب في يوم من الأيام أي حزب لبناني أو جهة لبنانية أو خارجية طلباً، مني أو من غيري في الهيئات الإدارية التي شاركتُ فيها، ولم يتدخل أحد بشؤوننا الإدارية أو بكيفية عملنا، ولم أعرف عضواً كان معي طيلة فترة مشاركتي بصفته السياسية مهما كانت، بل لم أعرف الانتماء السياسي للكثيرين منهم، ولم يتحدث أحد في يوم من الأيام في أي قضية تنم عن رغبة أو رأي أو توجه حزبي، كان الهم الوحيد داخل الهيئة الإدارية هو الهم الثقافي وهم الاتحاد وأعضائه وطموحاته محاولة انتشاله من الوهن وتطوير عمله، وكان كل ذلك في إطار لبنانية الاتحاد وضمن نظامه وقانونه وتحقيق أهدافه.
إنني أعتبر أن عضويتي في هذا الاتحاد محلّ فخر، وأن ممارستي لأي دور فيه سواء في الهيئة الإدارية أو العامة هو محل اعتزاز، لما يشكّله اتّحادنا من موقع على المستوى الثقافي في العالم العربي، واعتبار في نفوس الكتّاب العرب وفي نفوس الكتّاب اللبنانيين، وإن كان للبعض منهم مؤاخذات أو وجهات نظر تختلف حوله.
إن اتحاد الكتّاب اللبنانيين مع كل ما يحيط به من وهن وضعف في إمكاناته المادية، وما أتيح له من دعم، وما فُتح له من قنوات قليلة جداً من موارد الاستمرار، وما تزامن مع تاريخه من أحداث واختلافات ونزاعات، أودت بكثير من المؤسسات في هذا البلد، ظل حاضراً جامعاً بصيغته المستقلة وعنوانه الوطني محافظاً على تنوعه اللبناني، معبّراً عن لبنان كوطن للثقافة العربية منفتحاً على ثقافات العالم، حاضراً بدوره الفاعل في المحافل داخل لبنان وخارجه، لا سيّما حضوره القوي في الاتحاد العام للكتاب العرب، مع أن إمكاناته لا توازي إمكانات أضعف الاتحادات العربية.
إن هذا الكلام لا يعني عدم الوقوع في أخطاء أو أن نعصم إداراته عن الزلل، أو أنها كانت الأفضل في مسيرته الثقافية والإدارية، لكن الاتحاد بما يمثّل من صيغة مستقلة وطنية جامعة، وبما يحمل من حرية ونظام أساسي وقانون داخلي، ما زال قادراً على التغير للأحسن والتجديد في أي وقت، بتحمل المسؤولية وحسن التطوير عند جميع من فيه، سواء في الهيئات الإدارية المتعاقبة أو في جمعيته العمومية ككتاب ومثقفين.
أتمنى على جميع أعضاء الاتحاد وبكل محبة وتقدير واحترام، أن يزوروا مركزه المتواضع والاطلاع على نظامه الأساسي وقانونه الداخلي ومسار عمله، وبعد ذلك يمكنهم التأكد من أيّ تفصيل، فيكون حق الاعتراض مشروعاً. وأكرر بمحبة: إن هذا الاتحاد لكل واحد من أعضائه، وليس مركزاً انتخابياً.
إن اتحاد الكتاب اللبنانيين هو بيت الكاتب اللبناني، بيته الذي يقتضي على الأقل حضور أبنائه فيه، والاطلاع على شؤونه، وتفعيل دوره، وهو مدار همّه وأولوياته؛ وما له من حق وما عليه من واجب، وهو المكان الصحيح والأفضل لتحاور أعضائه، وتواصل هيئتيه.
بل هو دار ثقافته، ومنبر حواره، يعبّر عن حريته واستقلاله واجتماعه الوطني، وبيده أن يجعله كذلك، وبيده أن يتخلى عنه، وأنا أدعو نفسي قبل الآخرين إلى العمل للنهوض به، وليس للعودة به إلى سابق عهده فحسب، بل لإيصاله إلى مستوى الطموح اللبناني المشرق، والاتحاد يشرق بأعضائه جميعاً ويتشرف بهم، وليس بهيئته الإدارية فقط.
أخيراً: أدعو الهيئة الإدارية المنتخبة إلى أن تكون الأفضل في مسيرة الاتحاد وتاريخه الكبير، إدارياً ومسؤولية ونجاحاً.
إن الاتّحاد ما زال حياً ينبض قلبه بقلوبكم ويجري لبنان الثقافة في شرايينه، لم يحتضر يوماً، وما كان ليحتضر طالما هناك في لبنان كاتب وقرطاس وقلم.

* نائب أمين عام اتحاد الكتّاب اللبنانيين ـ الأمين العام المكلف (السابق)