في كتابه الجديد «خطأ غير مقصود» (دار الساقي ـــ 2019)، دخل رشيد الضعيف (1945) الرّواية من بابها الخلفي. يعلم الكاتب اللبناني أصول اللّعبة جيداً. يعرف أنّ سبلاً عدّةً تشكّلُ مدخلاً للرّواية وفقاً لما يتيسّر من مفاتيح لدى الكاتب، فقرّر هذه المرّة، وعلى غرار إصداره السابق «ألواح»، أن يلعب على كيفه، وهذا يعني بالضرورة عدم الانجراف مع السائد بل الانعطاف في مسارٍ مغايرٍ في كتابةٍ تماثل تجربته (أو تجاربه) الخاصّة.إنّها ليست المرّة الأولى الّتي يلعب بها الضّعيف بالنّار، أي أن يسحب نفسه من الإطار الضيّق لما هو شائعٌ أو متعارفٌ عليه، فهو معتادٌ على تقديم روايةٍ فيها من الغرابة ما يكفي، ذاتيّةٍ بحت قائمةٍ على «الأنا» يرويها ضمير المتكلّم اللّامنتمي لقضايا الرواية العربيّة وهمومها، معنيّةٍ بالطّبقات السّفلى في النّفس والحدث الرّاهن الذي تدور في دوّامته.

يرى رشيد الضعيف أنّ المرأة هي الخلاص في هذا العالم (مروان طحطح)

لم يكن التّجديد في المضمون الرّوائي المبغى الأخير عند الضعيف فحسب، بل طالت تجربته الشكل أيضاً حيث قرّر عصيان التقويم الأدبيّ الكلاسيكيّ بذريعة إنتاج نصٍّ أدبيٍّ حرٍّ يناسبه. في «خطأ غير مقصود»، هناك نَسفٌ للبنية الرّوائية باعتبارها نسقاً قائماً بالضّرورة على تراتبيّة كلٍّ من البداية والحبكة والنّهاية، ما جعل منها عملاً فريداً يستحقّ التوقّف عنده لوهلة.
ربما يكون هذا الكتاب الأكثر حميميّةً بالنّسبة إلى كاتبه كون أحداث السّرد التي تحاكي التّفاصيل ملتصقة بصاحبها تماماً. الرواية مقسّمة إلى 21 نصاً (أو شذرة) لا يربطها سوى تسلسلٍ زمنيٍّ قائمٍ على تواتر الأحداث منذ الطّفولة حتّى سنّ ما بعد التّقاعد، ويظهر الكاتب بشخصيّته الرئيسيّة كراوٍ مباشر حيث تشكّلُ أغوارُ باطنه نقطةَ ارتكازِ الأحداثِ والمحورَ الأساسيَّ لها. وليس من واجب القارئ، مهما يكن، أن ينقّب عن صحّة الحكايات الواردة في هذا الكتاب والحكم عليها بذاتها كأنّها نمطٌ من الأخبار المتداوَلة، أو إخبار مكتوب على شكل تقريرٍ يحمل اعترافاتٍ سرّيّةً. إنّما يجدرُ به أن يعاينَ التّجربة المتوفّرة أمامه عن كثب بغضّ النظر عن مدى حقيقيتها، ويتفاعلَ معها كأنّها عالمٌ مختلفٌ مجهولٌ يكمن جماله في التكهّن عنه، متصالحاً مع مفهوم الأدب كجزءٍ لا يتجزّأ ممّا هو يوميّ.
يستحقّ رشيد الضعيف الثّناء على قدرته في جعل عمله الأخير يبدو حقيقياً للغاية، علماً أنّه اقتلع نهائيّاً كلّ العناصر المطلوبة في التركيبة الدراميّة للرّواية على حساب سردٍ أفقيٍّ جامحٍ يشبه النّثر، غيرِ خاضعٍ لأيّ سلطةٍ، متفلّتٍ من قواعد الاعوجاج والانزلاق التّدريجي للوصول إلى حبكةٍ أو عقدةٍ، لكنّه منضبطٌ متينٌ وشيّقٌ مبنيٌّ على أسلوبِ سيلِ الوعي والجريان الكلّي في السّرد كأنّه تمرينٌ يندرجُ على قاعدة «التداعي الحرّ». ولعلّ الكاتب في تقنيّة كتابته هذه يكون قد جَهد في الهدم واجتهد بالارتجال، وعليه تصبح غايته في تحرير الرّواية من شروطها تسخيراً لغرضه أي البوح المطلق وفضح المستور حيال كل ما يجول في خاطره من أفكارٍ وما يسكنه من رغبات.
والشخصيّة الأساسيّة في الكتاب التي تتجلّى في الكاتب عينه، مهووسةٌ بالأفكار طافحةٌ بالرغبات مدججّةٌ بالواقعيّة. شخصيّةٌ متناقضةٌ، مضطربةٌ، وقلقةٌ تتعامل مع قراراتها بنزقٍ ومع غدها القريب بتردّدٍ كأنّ التعقّل والهدوء عدوها بالفطرة. نفيٌ مطلقٌ لصفات البطل. البطل عند رشيد الضعيف ميّتٌ لا يستحقّ الرّثاء.
ربما يكون هذا الكتاب الأكثر حميميّةً كون أحداث السرد التي تحاكي التّفاصيل ملتصقة بصاحبها تماماً

إذ إنّ مصيبته الكبيرة همّ وجوديٌّ يعود للأصل الأمّ، ومن ثمّ يختلف مع تقدّم الوقت ليصبح مشكلةً حميميّةً تنقر رجولته (إمكانيّة الإصابة بسرطان البروستات) وصولاً إلى إخفاقاته المتكرّرة في عالم النساء كأنّه ملعونٌ منذ الولادة. ظهور هذه المواضيع وغيرها بطريقةٍ غير متلاحقةٍ أو مترابطةٍ في مجريات السّرد يشي بنيّةٍ خفيّةٍ عند الكاتب وهي الإفصاح المباشر عمّا يمسّه: العمر، وكيف يمرّ. وهو بمجابهته لتلك المعضلات، يأسر القارئ معه كأنّه في عيادةٍ نفسيّةٍ يرمي فيها كلّ ما في جوفه من بوحٍ من دون توقّفٍ أو رقابة.
وبالرغم من رحلتنا معه في اختباراته المسهبة التي يستنبطها أحياناً بذكرياتٍ أقرب إلى مغامراتٍ أو في سرده الآنيّ، إلّا أنّ «خطأ غير مقصود» تحمل في طيّاتها قصديّةً واستدلالاتٍ ثقافيّةً مبطّنة. الرواية التي تبدأ في صفحتها الأولى بـ «أساس مشكلتي ومبدؤها الأوّل قد تأكّد بالبرهان أخطأت أمّي خطأ قاتلاً إذ فطمتني باكراً» (ص1) ما هي إلّا توكيدٌ على موت الأمّ أي الرّمز الأصلي والأصيل للجذور والموروث، والتحاقٌ الضّعيف في مركب الحداثة الذي يقبع على المقلب الآخر من الثّبات. هذه القطيعة الجذريّة بين القديم والحديث تتوضّح أكثر حين يعترف: «...لو أنّها لم تمنع عنّي حليب ثديها، لكنت اشتغلت بالسياسة» (ص11 ) والاشتغال بالسّياسة ليس إلّا إعادة إنتاج النظام ذاته وإعادة تدوير مفاصله بحذافيرها حفاظاً على الكساد واحتفاظاً بالفولكلور. وإذا كانت بداية رواية الضعيف تعلن موت الأمّ رمزياً ورواية «الغريب» لألبير كامو تعلن موتها فعليّاً، فإنّ وجه الشّبه يتلاقى في الغربة عند الاثنين. فعالم رشيد الضعيف كما يتّضح في «خطأ غير مقصود» سفليٌّ بديلُ (اندرغراوند)، داخليٌّ ومتلكّئٌ فيه نعيم الذي أبعد ابنته قسراً عنه خوفاً من محبّته المفرطة لها، وآمرة المشمئزّة من إهمال زوجها لنظافته الشخصية، جدته التي عملت خادمةً في نيويورك وفضلّت ـ بعد محاولات التّحرش المتكرّرة ـ أن تُسلِّم لربّ عملها شرجها بدلاً من بظرها لكي لا تخلّ بميزان أخلاقها، وأمّه التي التحقت بالموضة البيروتيّة وأعطته «البيبرون» عوضاً عن إرضاعه من ثديها، فباتت موضوعاً غير مقدسٍ في ذهنه وصار يكره صفاتٍ عديدةً فيها طالت شكل أنفها.
لكن في كل هذه العتمة، استطاع رشيد الضعيف أن يتفادى اليأس، على الأقل قدر الإمكان، عرف لون الضوء الموجود في آخر النفق. «... المرأة المتزيّنة أجمل من شجرةٍ حرّةٍ، وأجمل من شجرةٍ مفردةٍ في أرضٍ قاحلةٍ، وأجمل من شجرةٍ فخورة. إنّها الدليل على وجود الجنّة، لأنّها هابطةٌ منها بإرادتها» (ص181). لا يهم إذاً حجم الخسارات الفادحة، أو الإخفاقات المتكررة، المعنى الكلّي موجود عند رشيد الضعيف، المرأة باعتبارها خلاصاً في هذا العالم.