مشكلة أن تكون ناجي العلي هي أن لا تستطيع أن تصمت حينما يريدك الجميع صموتاً سكوتاً لا تثير أيّ ضجةٍ مهما كان نوعها. كان ناجي حالة خاصة من الوعي والصخب والضجة لا تشبهها أي حالة أخرى. لذلك كان من البديهي بالنسبة لأعداء فلسطين أن يكون إسكاته بكاتم صوت. هُجِّرَ ناجي للمرة الأولى من صحيفة «السفير» حيث بدأ، وبدأ معه «حنظلة»، ثم كانت «القبس» محطته الثانية التي لم يستطع من في السلطة آنذاك تحمّل سوط لسانه وسطوته، فهجروه إلى لندن حيث جاء القتلة ليقولوا له الآن زمن الغياب. مع ذلك، لم يغب ناجي البتة. بقي هنا، وبقي «حنظلة» علامة على «ضمير» الشعب الفلسطيني وصورة حقيقية للاوعي لهذا الشعب المغيّب قسراً عن أرضه. آمن ناجي على فطرته بالشعب. هذا الإيمان جعله ينفر من تجربة الأحزاب والتجمعات والجمعيات... كان يعتقد بداهةً ــ ولربما أصاب أو أخطأ ــ بأن البندقية غير الواعية لا توصل إلا للخراب. من هنا وإيماناً منه بأن غالبية التنظيمات الفلسطينية المسلحة آنذاك لم تكن بندقيتها واعية، فإنَّه آثر الابتعاد عنها. وما نقاشه مع الشهيد غسان كنفاني الكاتب الأشهر في الوسط الفلسطيني والشهيد هو الآخر، عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية والذي نشر غير مرةٍ على صفحات الجرائد حول الفكرة والانتماء للجماعة أو لحزب أو فصيلٍ سياسي، إلا لتوضيح الفارق بين غسان وناجي كحالتين تشبهان الشارع الفلسطيني على اختلاف أطيافه ورؤاه. انتمى ناجي بقوة للناس العاديين، أصرّ على أن يكون «حنظلة» و«فاطمة» و«أبو محمد» شخصياته الأثيرة أناساً عاديين، وأي شخصٍ يختلف كان يرجمه بحجارة «حنظلة» أو حجارته.
على الرغم من شعره الأبيض الذي زينه منذ سني شبابه الأولى، كان ناجي شاباً بكل ما تعنيه الكلمة. كان حياً أكثر بكثير ممن عرفه، ولاريب أن قصة ترك العدو الصهيوني له في صيدا إثر حصار مخيم عين الحلوة حيث كان يقطن قصة تستحق الرواية. إذ أنّ أحد العملاء المتعاونين مع الصهاينة بدأ بالنداء مطالباً بخروج ناجي العلي، ولما لم يخرج طلب إخراج جميع الشباب ما دون سن الثلاثين. قرر ناجي الخروج في آخر الأمر، إذ ليس هناك من حل. عند باب المخيم، نظر أحد العملاء إلى شعر ناجي الأبيض ومشيته المتعرّجة وظهره المحني قليلاً (وهو شكله المعتاد)، قال له: «إنت ختيار شو بدنا فيك، روح». اغتنم ناجي الفرصة وغادر المخيّم وعاد إلى بيروت ليرسم الكاريكاتورات التي شكلت جزءاً من «الصراع» مع العدو الصهيوني ثقافياً، كتلك التي يحيي فيها «حنظلة» بيروت المدينة الصامدة بجملة «صباح الخير يا بيروت» من خلف فتحة حائطٍ دمرته القذائف.
بعد سنوات جاء متأثرون أو متعاطفون سطحيون مع القضية الفلسطينية، اعتقدوا أنهم أذكى من ناجي فحمّلوا «حنظلة» سلاحاً، أو بندقية أو كلاشينكوف (بحسب الصور التي انتشرت). كان السؤال الأكثر بداهةً: كيف يمكن لضمير شعبٍ أن يحمل بندقية؟ تعلّلوا بأن ناجي جعله يحمل «حجراً»، لكن إجابة ناجي حينما تم سؤاله ذات مرةٍ في مقابلةٍ تلفزيونية حول الأمر، أن «حنظلة» هو الذي أراد حمل الحجر تزامناً مع انتفاضة أطفال الحجارة وإيذاناً ببلوغها، ولم يكن للرسام أي دور. هو لم يحمّله أي بندقية مع أن عصر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كان عصر الكلاشينكوف والبنادق المرتفعة والمُشهرة. ناجي لم يكن يريد من «حنظلة» أن «يطخ»، وهو التوصيف الفلسطيني لإطلاق النار. «حنظلة» هو «ضمير» الشعب الفلسطيني وصورته المباشرة، فكيف يكون «طخيخاً»؟
كان ناجي يريد من «حنظلة» أن يكون رسالته، كلمته التي يريد أن يقولها حتى ولو فقد حياته في سبيل ذلك. كان يعرف أنّ «حنظلة» سيعيش، وقوة الرمز التي يمتلكها ستبقى مهما حصل. فالرمز مزيته أنّه يحفظ في القلب ويصبح مثل فكرة الحرية أو العدالة. فكرة خالدة لا تموت. بات هذا الرمز قوياً لدرجة أنّك إذا ما شاهدته في أي مكانٍ في العالم تعرف أنّ فلسطين مرت من هنا، أو أن فلسطينياً سكن هذا المكان. هذه قوة الرمز التي خلّفها ناجي العلي. الغضب الذي كان يستعر في روح ناجي عرفه جميع من عايشه، إذ لا ينسى أحد ماذا فعل في بيت أحد زعماء التنظيمات حينما خرّب له إحدى «عزوماته» الاستعراضية بطريقةٍ صاخبة. كلفه الأمر بضع أضلاعٍ مكسورة، ويداً وقدماً في الجبيرة. كان ناجي يعرف أن أسلوب حياته هذا سيكلفه كل شيءٍ في لحظة ما، لكنه لم يكن ليأبه بالأمر. أصلاً من يعرفه وشاهده ولو لمرة يعرف أنه لن يكون ناجي العلي إذا ما توقف عن القيام بما يقوم به.
كان ناجي العلي، فكان «حنظلة». ومنذ تلك اللحظة لم يعد شيء كما كان قبلاً. صار «حنظلة» على صمته ناطقاً، ولم يعد الزمن أو حتى الجسد يأسر ناجي بأي شيء.